ليلة القبض على الذوق الرفيع.



هذه السطور هي تطوير واسترسال لمقالة قديمة تناقش نفس الفكرة، عن المتع السامية والمتع البسيطة، لكن الجديد هو أن هذه المقالة ستكون مثل البيان الشيوعي لماركس وانجلز، ومثل "المانفستو" الذي كتبه ثيودور كازينسكي، ستكون أشبه بإعلان -سلمي وعلى استحياء- للثورة على الذوق الرفيع، على الحس الفني العالي، وعلى المتع بالغة الصيت، وإن فشلت ثورتنا.. فسوف نكسب شرف طرح الأسئلة!


الخطيئتين: الملل وسوء الفهم: 

لابد وأن حدث في يوم ما أن تسمرت أمام لوحة ذات صيت رسمها فنان شهير، تتسائل في قرارة نفسك وخلف تعابير وجهك التي تمثل فيها أنك منبهر بما ترى، تتسائل عن معنى الرسمة وغايتها، وان حدث أن فهمتها وكان لك رصيد ثقافي وسعة فهم، فلابد أن تسأل نفسك: هل استمتعت؟ هل من المفترض أن أستمتع بهذا العمل؟ وماذا يعني أن تفهم، لكن لا متعة ولا هم يحزنون؟ 

وان كنت تعيش في مدينة ليس للفن حضور فيها، فلابد أن مرت عليك أغاني للست، أو لطلال مداح أو عبدالحليم، وغيرهم من جبابرة الشجن العربي، لكنّك أيضًا -والمُلام هنا نفسك الشريرة- قد مللت من أغانيهم، وطورت حسًّا لأغاني تصنف من الفن الهابط، الفن الذي قد دمر الأغنية العربية وجعلها منحطة وأفقدها رونقها، وقس على نفس المثال في الفن والموسيقى عشرات الأمثلة في كل المجالات، كتب عظيمة تجدها على رفوف الأكثر مبيعًا والأهم اقتناءًا، لكنك بعد أن تقرأها مرة ومرتّين وثلاث لم تفهم لماذا كُتبت أصلًا، وروايات مثلها عدة، ومسرحيات لشكسبير وسوفوكليس وقصائد لدانتي وهوميروس والنابغة، تخيّل أن كل هذه الكلاسيكيات الإنسانية فوق، وأعظم ما قدمت البشرية من ارث مدّون، أنت لا تفهم منها شيء، ولا تفهم سبب كل الضجة حولها. 

شعورك هذا ليس خطيئة، بل هو شعور انساني طبيعي، أنت ببساطة لن تحب مالم تفهم، ولن تفهم مالم تحب، والمحبة تعني أن تستمتع بالشيء وتطرب له وتبحث عنه، وتعاطيك معه -كان فنّا أو رسمًا أو موسيقى- يعني بالضرورة أن يقدم لك متعة، حتى الأغاني الحزينة لها فائدة مثل التنفيس عن أفكارك الحزينة عن طريق مقاسمتها، وحتى أفلام الرعب، تضمن لك تجربة مثيرة بدون عواقب، وحتى ألعاب القتال ومشاهد العنف، والرسومات الجنسية وحتى السيريالية، هي كلها عمليات ترويح وإفراغ للأفكار السلبية والعنيفة، دائمًا نتوقع من أدمغتنا مكافآت تجاه ما نرى وما نتفاعل معه، ولا وجود للناقد الفنّي الموضوعي أبدًا.. لأنك كمشاهد سوف تتوقع شيئًا ما بالمقابل، وإن لم يأتي المطلوب فسوف تقع بخطيئة الملل، وتقوم بتجاهل موناليزا دافينشي، وتطفئ أغنية أم كلثوم، وتستبدل فيلم ستانلي كوبريك بفيلم أكشن ممتع وبسيط وبلا تعقيد. 

جميع "الكلاسيكيات الإنسانية" ان اتفقنا على تسميتها هكذا، لم تكتسب قيمتها السامية نتيجة ضربة حظ أو نتاج تخطيط ومؤامرة لمنحها قيمتها، هي اكتسبت قيمتها لأنها كانت ثورة في زمنها، مثل ثورتنا المجيدة هذه في السطور التي أكتبها، كانت تخطّي للسائد وتفوق على الدارج والعادي ونجاح ساحق في وقتها، خذ مثلًا ملحمة جلجامش -والتي أشرف عليها حتى الأن 5 كتاب سومريين وبابليين مجهولين ان لم يكونوا أكثر- التي كانت أول شكل للأدب كما نعرفه اليوم، قبلها لم نعرف عملًا بهذه العبقرية (وإن كانت العبقرية بسيطة في وقتنا الحاضر) سوى نصوص دينية كتبها الفراعنة في كتاب الموتى، وخذ مثلًا قصائد هوميروس الإلياذة والأوديسا، وكيف اشتبك الطرواديين مع الآثينيين في حرب دامت عشر سنين من أجل امرأة جميلة، وكذلك رسائل الغفران للمعرّي، والتي نسخها أو لنقل استلهمها دانتي -بعبقرية- وثار على السائد في عصور أوروبا الظلامية .. كذلك يمنح عامل الزمن دائمًا رونقًا وقيمة للنص الأدبي والفنّي، فإكتشاف قصيدة لها ألف عام وان كانت من ثلاث بيوت، ليس كالإستماع لقصيدة صاحبها لا يزال حيًّا، للكلاسيكيات ألاعيب وخدع دائمًا ما تنجح. 

ما كتبته فوق ليس دفاعًا عن الكلاسيكيات والمتع الكبرى السامية، وليس تراجعًا عن ثورتي عليها، إنمّا إيماني أن كل المتع تستحق التقدير طالما أنها تقدم المتوقع منها، وتعود بالمكافأة على صاحبها. 


لا داعي للقلق: الأخ الأكبر جون ستيوارت ميل يشعر بك: 


قبل أن نعرف بتعاليم الأخ الأكبر لثورتنا جون ستيوارت ميل، وجب أن نعرج على الأخ الأكبر للأخ الأكبر، جيريمي بنثام، جيريمي هو مخترع النفعية، الفلسفة البراغماتية الأهم والأكبر والتي تقوم على مبدأ "أينما وجدت سعادتك، فتلك غايتك" .. بنثام هو أول من عكس مبدأ الحياة القائل أن الغاية منها أن تنجو، لتكون الغاية منها أن تسعد، وهو أول من قلب الطاولة على إجابة السؤال الشهير: ما الغاية المثلى؟ عندما أجاب بأنها السعادة، وساوى بينها وبين اللذة، فالشيء جيد طالما أنه يسعدني، ولا معنى للتضحية أو للألم والبذل في سبيل فكرة ما، ومن تعاليمه هذه استلهم الآباء المؤسسين لأمريكا كتوماس جيفرسون وجورج واشنطن تعاليم الدستور الأمريكي، وعلى تعاليمه أيضًا شبّ وترعرع ابن صديقه ستيوارت ميل، جون، أخانا الأكبر!

عند بنثام وميل، فإن الفعل الأخلاقي الصحيح هو الذي يعود بأكبر قدر من السعادة على أكبر عدد من الناس، ان كانت روايات دان براون البوليسية تعود بالمتعة على الناس أكثر من روايات أوسكار وايلد وستيفان زفايغ، فمرحبًا بدان براون، وغفر الله محاولات وايلد وزفايغ، وإن كانت أغاني الإيقاع السريع تطرب مسامعك بدلًا من سماع محمد صالح قائد فرقة الموسيقية خلف الست، إلى جانب الحفناوي (عازف الكمان الرئيسي) وسيد سالم (عازف الناي) ينظمون الإيقاع نصف ساعة قبل أن تبدأ أم كلثوم، فأهلًا بالإيقاع السريع، ورحم الله الست والعظماء الذين معها. 

بنثام كان متطرفًا، وصنع معادلة رياضية وخوارزمية لحساب معدل السعادة، لكن هذا لا يعنينا، ما يعنينا هو أن تلميذه ميل كان معتدلًا، فالمتع السامية والمتع المنحطة عنده كانت مجرد تفضيلات، فالذين يستمتعون بروايات دان براون كشفرة دافنشي وملائكة وشياطين لديهم تفضيل للتحولات الخطيرة طوال الرواية وميل شخصي للتعقيد في الحبكات والأحداث بشكل جنوني، والذين يفضلون هاملت لشكسبير فهم لديهم تفضيل للشعر، وللبراعة اللغوية، وللبناء الدرامي للشخصيات، وبحسب تعاليم ميل فالكل منتصر وسعيد هنا. 




ختامًا، فإن صاحب هذه السطور يفهم لوحات دافينشي كلها وحتى الغامضة منها التي رمّزها ولغّزها بمعتقداته التي أخفاها خوفًا من الكنيسة، لكنّه يتفهم من يكره لوحاته، ويقرأ لشكسبير لكن يفضّل روايات أغاثا كريستي التي ينتصر فيها البطل دائمًا،  ويطرب لسماع الست، لكن دقائق سماعه لأبو الليف -مطرب مصري كانت لديه فلسفة عجيبة وكلمات أغاني أعجب- تفوق أضعاف أضعاف ما صدحت به كوكب الشرق، هي تفضيلات، وخيارات، طالما أنها تمنحك معنى. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من منكم يعرف أحدًا، لمس الأمم المتحدة؟

ما الفرق بين ابن الرومي، والطيور الإستوائية؟