من منكم يعرف أحدًا، لمس الأمم المتحدة؟
الأشياء التي لم تكُن هي، في الحقيقة، أعظم وأقوى من الأشياء التي كانت.
-انجيل يوحنا، الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس.
ان كلمة السر الجوهرية خلف كل اسهام قدمته البشرية، وخلف كل ارث واختراع واكتشاف، يعود لقدرتنا على صنع خيال مُشترك، خيال جمعي وصورة موحدة كبرى نصدقها ونؤمن بها كما لو أنها واقع مادي له وجود، ونذعن لها ونطيعها ونحترم وجودها التخيّلي، وهي خدعة مفيدة، أو لا تُسمّها خدعة، لكنها منحتنا التنظيم اللازم للإنطلاق، ومنها صنعنا أول الحضارات البشرية، طوّرنا الزراعة، اخترعنا الرأسمالية والشيوعية، وهي نفسها السبب خلف قيامنا بالثورات والإنقلابات والحروب .. الكيانات الوهمية التخيّلية.
تذكر متى آخر مرة سمعت عبارة: الموظف أساء للشركة، أو رأيت سياسيًا غاضبًا أو دبلوماسيًا متوترًا تستدعيه حكومة الدولة المضيفة على وجه السرعة وتطلب منه حزم حقائبه، لأنه بشكل أو بآخر أهان البلد وأساء للدولة، لكن لحظة.. دولة! أي دولة؟ وماهو شكلها وأين حدودها وكيف يمكن لمسها.. من منكم لمس الأمم المتحدة، أو رأى مصر وهولندا يتبادلون التمثيل الدبلوماسي يدًا بيد فعلًا؟ من منكم رأي نفس الشركة التي أساء لها الموظف البسيط، وكيف عرف موظف الموارد البشرية أنها غاضبة من إساءته لها؟ متى تكلم معها وكيف؟
هذا كله، الدول والشركات، بل حتى إلى جانب الإقتصاد، والمجتمع، والعائلة، كيانات تخيّلية، تساعدنا على تنظيم الأمور، فقط.
بلادي وإن توهمتها عزيزةٌ:
قبل أن أُفنّد فكرة المواطنة، وجب أن أعرج مجددًا على واحدة من أهم خصائصنا العقلية، بل أهمها، أهم حتى من اللغة، الخيال. قدرة الإنسان على صناعة واقع افتراضي ليس له وجود ولكن له حدود وتأثير وانطباع، هي نقطة تحول عجيبة في وعيه وادراكه، الدول كمثال، كيّان تخيلي ليس له وجود، أنت لا ترى دولتك، لا ترى الأمم المتحدة ولم تعرف أحدًا يعرفها -ان كنت تعرف فهذا يهدم مقالتي- ولو ذهبت لمقرها في نيويورك لن ترى الدول الأعضاء في حديث جانبي مشترك، يتبادلون التحيات ويضحكون سويًا ويعوضون ما فاتهم بعد آخر اجتماع، وكيف أن الصين تبدو أضخم منذ آخر مرة اجتمعوا فيها، وكيف أن رواندا تبدو أكثر حيوية وإشراقًا بعد خطط التنمية التي فرضتها حكومة كاجامي، ثم تدخل واحدةً تلو الأخرى ليبدؤوا اجتماعًا شكليًا تقرر فيه أمريكا ما تريد وترفض ما تريد.
الدولة فكرة خيالية تجمع ملايين البشر، توفر لهم التنظيم اللازم للحياة، تحميهم، يقدمون لها واجبات ويستفيدون من حقوق تكفلها لهم الدولة -الفكرة- لا الدولة المادية التي لها وجود فعلي.
لماذا هذا المفهوم، ولما هذه الألعاب العقلية؟
سابقًا كان بإستطاعة مجموعة بشرية صغيرة -من 50 إلى 100 فرد- أن يجتمعوا خلف هدف واحد ويوحدوا جهودهم ويتنازلوا عن روح الفردية مقابل الجماعة، لكن المعضلة بدأت والتحدي كبر عندما ازدادت المجموعات هذه حجمًا، وظهرت الحاجة لخلق فكرة مُتخيّلة لتوحيدهم.
علاقة الشامانية بإكس وتيك توك : كيف بدأت الكيانات الوهمية:
وجب أن نعود بالتاريخ قليلًا، ظهرت أول فكرة بدائية للدولة (وهو تأريخ وتعليل مُتنازع عليه) لعصور ماقبل التاريخ، تحديدًا مع ظهور الشامانية، وهي تأليه شخصية زعيم القبيلة للإلتفاف حوله ونحوه. المبدأ اذًا كان ولا يزال البحث عن التنظيم، عُصبة وفكرة وخيال واحد نجتمع حوله لننجو جميعًا أو لا يبقى أحد، والقتال من أجل القبيلة أو فداءًا للشامان الأعظم كلها أسباب سطحية لرغبة عميقة وداخلية، رغبة التوّحد والتنظيم.
توسّع الخيال البشري للطوطمية تواليًا، وهي نفس الفكرة، لكن مع تبدّل الأدوار، فبدل جعل روح الدولة في شخص بعينه، فاني لا خلود له وقد يموت في غزوة فاشلة، نجعلها في "شيء" مثل حيوان أو شجرة، يرمز لنا ولوجودنا ولدولتنا، والأهم من هذا كله يرمز لوحدتنا كمجموعة لها نفس الدوافع وتنطلق بنفس الرغبة نحو نفس الهدف، وصولًا لتاريخنا الحالي، بقت الفكرة نفسها لكن تجزأت وتبعثرت لمئات الرموز الطوطمية التي يراها الفرد يوميًا ويتفاعل معها، على سبيل المثال مواقع التواصل، هذه المقالة وصلتك لأنك من مجتمع المتابعين على اكس، ثم انتقلت جموعكم سويًا لموقع Blogger حيث يوجد هناك أيضًا مجتمع مصغر لنا، بشعار برتقالي يمكن تمييزه وعنوان لمدونتي واضح وبسيط، كلنا آطلسييون في هذه اللحظة، حتى آطلس نفسه، ولاحقًا بعد أن ننتهي من المقالة نبدل ولاءاتنا من مجتمع وفكرة وهمية لأخرى، في تيك توك أو أي برنامج تواصل افتراضي آخر .. بكل سلاسة وتنظيم تستمر نفس الخدعة بالعمل من 10 الاف عام.
اذًا شامان القبيلة، وطوطم الشعب، وطائر تويتر الأزرق سابقًا، وصقر الجديان في علم السودان، جميعهم يخدمون نفس الفكرة .. حتى اقتصاد الكوكب اليوم، قائم على مفهوم الإئتمان، فكرة أننا نتفق جميعًا على أن الأوراق التي في يدنا ونسميها عملات تحمل قيمة نتفق عليها جميعًا ونصدق بها -تخيل لو رفض كاشير المطعم قبول أموالك وطلب منك الرجوع لنظام المقايضة، أنا لن أتخيل ولا أريد- ونبني مستقبلنا ومستقبل شعوبنا وأوطاننا بناءًا على هذا الإيمان الأعمى، لكنه إيمان مُفيد، إيمان مثل الذي قاله يوحنا لأهل كورنثوس، الأشياء التي لم تحدث أعظم من التي حدثت، وخيالاتنا الجمعية المشتركة، أتاحت لنا الفرصة أن نصنع كل إرث عظيم نسميه حضارة ومدنية.
تعليقات
إرسال تعليق