ما الفرق بين ابن الرومي، والطيور الإستوائية؟
في البداية، عليك تجاهل السؤال الذي بالعنوان، لأننا سنعود له لاحقًا.
ما الفارق الجوهري والحاسم بين نوعنا كإنسان عاقل، وبين غيرنا من الأنواع؟ أهو العقل بكافة آلياته كالوعي والإدراك؟ أم اللغة مثل ماينادي به اللغويين؟ أم أنها خصيصة أخرى مميزة وفريدة؟
إن كانت مايميزنا العقل ووعينا بذواتنا، فهذه إجابة -وهي الأشهر والأكثر منطقية- تطرح الكثير من الأسئلة، فالعقل لا تعريف له، ولا يمكن تعيينه ولا تحديده، والوعي بذواتنا هي خصيصة ظننّا سابقًا أنها تخصنا، لكن أبحاثًا حديثة أثبتت أن بعض الحيوانات قد طورت وعيًا بذاتها، وعيًا يخصها هي وآليات عقلية هي وحدها قادرة على فهمها، فعقل وذكاء الإنسان أصبح مجرد مرتبة في سلم مراتب، قد نكون في أعلاه، لكننا بالتأكيد لسنا وحدنا.
ما الذي يميزنا اذًا؟ ببساطة ليس الوعي نفسه، بل تيّار الوعي.
تيّار الوعي: فوضى الإنسان الخلّاقة:
للبشر وعي وللحيوانات وعي، ونستجيب لنفس الدوافع الغريزية والمشاعر، ونملك الإستعداد الجيني ذاته، كيف ولماذا قررنا أن وعينا هو الأميز!
بالواقع، وعينا يتميز بأنه شبكة ضخمة من المشاعر والتجارب المشتركة، الحب والكره والخوف والرغبة، تسير كلها في اتجاه واحد يسميه العلماء Stream of consciousness -تيار الوعي- وهو حتى الآن أفضل تفسيراتنا للوعي، وهو نفس السبب الذي يمنع الذكاء الإصطناعي من التفوق علينا.
كومة الميول والرغبات التي تشكّلنا، تعطي دعامة للهيكل الكبير المسمى بالوعي، وهي الخصيصة التي منحتنا الفرصة لأن نعي ذاتنا ثم غيرنا، وأصبحنا قادرين على تشكيل مجتمعات بشرية متعاونة ومنظمة أعطتنا التقدم الحضاري الذي نراه اليوم.
الميزة الأخرى، هي مدى تعقيد الوعي نفسه، تقوم عقولنا بكل بساطة بإنشاء مفاهيم مركبة ومعقدة عكس المفاهيم الأولية التي تستخدمها مخلوقات أخرى.
فمثلًا فإن رأى قردٌ ما أسدًا فسيقوم بالصراخ والقفز، وإن أراد نفس القرد التعبير عن قوته سيقوم بالصراخ والقفز، وحتى مشاعر الفرح، سيظهرها على شكل صراخ هستيري وقفز، أما إن رأى الإنسان أسدًا، سينذر أصحابه بواسطة اللغة، ثم سيحددون الطريقة المناسبة للتصرف، ثم قد يتعاونون بشكل منظم لإصطياده، وأخيرًا سنرى الأسد ضحيّةً لتيّار الوعي المعقّد.
نفس التراكيب المعقدة، يمكن لأقراننا الآخرين فهمها وحفظها ونقلها للأجيال التي تلي، مثلًا يمكن لنا أن نعبر عن مشاعرنا المختلفة كالفرح والحزن بإطالة مستفيضة، ويمكن أن نستعير أفكارًا معينة من الطبيعة ونجرّدها من الطبيعة ثم نسقط عليها مفاهيمنا .. كأن يستعين النابغة الذبياني بالليل المظلم ليشبهه بالخوف، بعد أن أهدر دمه الملك النعمان بن المنذر:
"فإنّك كالليل الذي هو مُدركي
وإن خُلتُ أن المُنتأى عنكَ واسعُ"
وان ظننت أن التجريد abstraction عملية بسيطة فتذكر أن عقولنا لا تطورها الّا بسن يعد متأخرًا عن سنين الطفولة، ويعد آلية دماغية -أُضيفت حديثًا- لعقول أسلافنا .. من بعد سن العاشرة نبدأ تقريبًا في تطوير قدرتنا على التفكير التجريدي، فنفهم مثلًا أن "ذيبان" مصطلح يدل على الرجولة لا على تحول صاحبه لمستذئب يذكرنا بريموس لوبين، أو جملة "ضع نفسك مكاني" لا تعني الإنتقال فيزيائيًا بين حيز لأخر.
الأمر قد يبدو بديهيًا، لكن على العكس .. القدرة على فهم المجاز وفصل الأفكار عن الأشياء "كأن نفكر باللون الأزرق وحده لا السماء الزرقاء" مرتبط بالقشرة الحديثة بالدماغ Neocortex وتشكل 76٪ من دماغ الإنسان.
بديهيات اليوم، كانت لحظات حاسمة في فجر البشرية أمس.
التفكير التجريدي كان انعطافة حاسمة في مسار الإبداع البشري.. اُضيفت تلك الإنعطافة للرصيد الذي نملكه، وتم إيداعها في تيّار الوعي.
وأخيرًا، إن أردت أن تعرف الفرق بين ابن الرومي والطيور الإستوائية كما وعدتك، فإن الفرق بسيط لكن جوهري، الطيور إن شعرت بالحب ستُغنّي فقط، أمّا ابن الرومي سيضطر أن يقول قصيدةً كان مطلعها "قلبي من الطرفِ السقيم سقيم" ويكمل:
نظرت فأقصدت الفؤاد بسهمها
ثم انثنت نحوي فكدت أهيم
ويلاه ان نظرت وان هيَ أعرضت
وقع السهام ونزعهنّ أليم
تيار الوعي نفسه هو مايميّزنا حقًا عن غيرنا، خاصيّة فريدة صُمّمت داخل عقولنا منحت ابن الرومي القدرة على وصف نظرة المحبوب -في تجريد بديع- بالسهام التي تصيب قلبه.
هذه القدرة على التجريد، والتي نراها في خطابنا العادي وفي فنوننا كالشعر والمسرح والرواية، والتي تراها في سطور هذه التدوينة، هي إجابة السؤال الجوهري: مالفرق بيننا.. وبينهم!
تعليقات
إرسال تعليق