طربان بعض أيامي، وأيام محزون.
تسري الموجات الصوتية عبر طبلة أذنك، وترتد عنها عبر العصب السمعي إلى داخل دماغك، ثم تضخ الغدة الكظرية -كإستجابة- الأدرينالين إلى مجرى دمّك، تتسارع نبضاتك وتُصبح متحفزًا جدًّا، ثم يغمرك شعور بالخدَر البسيط.
هذه ترجمة علمية لتجربتنا مع الموسيقى، ترجمة تخل بالمعنى الحقيقي، ولن تستطيع وصفها أبدًا.
ماذا تعني الموسيقى بالنسبة لنا؟ ما آثرها على أدمغتنا؟ وماذا تعني الألحان والنوتات والترانيم والدندنة بالنسبة لها؟
التجربة غير المفهومة: عجز اللغة عن وصفها
يعدد الباحث جورج شتاينر ثلاث أنساق ضخمة يعجز العقل البشري عن فهمها.. غنية بالمشاعر للحد الذي لا يمكن التعبير عنه، الدين واللغة والموسيقى. وهي أنساق تتجاوز حدود قدرتنا اللغوية والوصفية، فمثلًا؛ نفهم أن تلك النغمة الملحمية أو تلك المقطوعة شيّقة وتعطي شعورًا عجيبًا، لكن كيف يمكن وصف ذلك الشعور؟ كيف يمكن تحديده؟ ماذا عن تعيينه وعزله لدراسته اذًا؟ لن نستطيع ببساطة، لأنها تجربة ذاتية متعالية على كل شيء.
هل تتذكر شعورك عندما تستمع لأغنية حزينة؟ ما المتعالي في الحزن نفسه حتى ينضم تحت تصنيف شتاينر؟ هل استمعت لمقطوعة Lacrimosa لموزارت؟ والتي تترجم لـ "نحيب الموت" أو استمعت للست وهي تشدو بـ: كان صرحًا من خيال؟ ما الباعث على اللذة فيها؟
معضلة الحزن اللذيذ: آرسطو يشرح نصرت البدر
الفن والأدب وفروعهم كالشعر والموسيقى، ماهي الا بنى فوقية تعكس الحالة للمجتمع الذي يتنفس عبرها، ويستخدمها (بأفراده) للترويح عن نفسه وترجمة شكواه بطرق غير مباشرة، الموسيقى آفيون الشعوب، ومسكّن آلام ذو فعالية مثبتة ومجربة. يعتقد آرسطو أن الفن آلية للتطهير، ويذكر آرسطو التطهير نصًّا صريحًا Catharsis للإشارة للعملية التي تتطهر بها النفس وجدانيًا من مشاعرها السلبية المكتومة والمنسية بالأعماق بعيدًا.
نستخدم الموسيقى الحزينة لنفس السبب، تتعرف عليها عقولنا عن طريق تمييز خصائص مميزة ومحددة، ايقاع منخفض وهادئ، صوت غنائي رخيم، والسبب الصادم والأهم، أن أصوات الموسيقى الحزينة تشبه أصوات المعاناة البشرية..!
هذا هو مبدأ اللذة في الموضوع، وسبب ادماننا لها، هي أنها تفريغ لمشاعرنا الحزينة من مبدأ الحزن يتنفس على الحزن، ومن منطلق أن التجربة الإنسانية مشتركة، أنت تشعر أن موزارت كتب أعظم مرثياته يقصدك، وأن أم كلثوم تغني حزنًا على النهاية المأساوية لقصة حبك، وأن نصرت البدر في العراق هناك يصف ما حدث لك*.. مشاعرك الحزينة مثل قضية حساسة، كثرة طرحها للنقاش يسلب منها هيبتها وسطوتها على النفس، وتصبح عديمة الأثر لأن التكرار يعني التطهير الآرسطي، ولأن المجتمع يشبه إنسانًا ضخمًا بأعضاء ورغبات وحاجات، فإنه يحتاج للتنفيس الموسيقي أحيانًا كثيرة.
سُئل كريم العراقي مرة عن سبب أن العراق مشهورة بالموسيقى الحزينة والتراجيدية فقط، فأجاب:
يقولون أغانيكم حزينة
هو ياعمي ايش بإيدينا
من آدم ولليوم واحنا
دم تمطر الدنيا علينا
*على الرغم أنه في الفيديو المصور للأغنية كان يحمل أدوات فلاحة ويقوم بنبش قبور ودفن ذكريات، تناقض يشعرك أنك المقصود لكن كيف؟ لا نعلم.
تعليقات
إرسال تعليق