مالك الحزين .






"لو قيلت في العصور الجاهلية، لأصبحَتْ من المُعلّقات" 
عن مرثية مالك ابن الريب في نفسه .






مالك ابن الريب التميمي فارس وفتّاك  وشاعر .. رفيق درب اللصوص وأشهر قاطع طريق في اليمامة .
بعد أن ذاع صيت مالك سيئ السمعة، مرّه جيش الصحابي سعيد بن عثمان بن عفّان رضي الله عنهم أجمعين في طريقه لإخماد فتنة في خُراسان، وكان سعيد معجب بفروسية ونبل أخلاق مالك فناصحه .. وعرض عليه الإنضمام لجيشه، لان قلب مالك للنصيحة وقرر إنهاء حياة اللصوصية وسنين الضلالة كما أسماها.
وانضم للجيش الغازي وحارب في خراسان وأبلى بلاءًا حسناً لمدة سنتين .

في طريق العودة لدياره من حربه وهو مشتاق، تعرض للدغة ثعبان وكانت قاتلة، وعلم مالك أنّها نهاية قصته لا محالة، فقال أعظم مرثية في نفسه .. سهلة اللغة وبسيطة وبلا تعقيد .

حتى أن محمد متولي الشعراوي رحمة الله قال "لم يعش شاعراً، ولكن مات كذلك." 

وللتذكير فقط قبل ذكر أبياتها، مالك ابدع هذه العظمة وهو يحتضر ويلفظ آخر أنفاسه ..

 ألا ليْتَ شعري هـل أبيتنّ ليلةً 
بجنب الغضى أُزْجي القلاص النواجيا 

فليتَ الغضى لم يقطع الرَّكْب عرضه 
وليـت الغضى ماشى الرِكاب لياليا

لقد كان في أهل الغضى لو دنا الغضا 
مزار ولكن الغضى ليـس دانيا 

هنا بداية القصيدة بـ"ليت" التمنّي الشهيرة، وهي أمنية مستحيلة لكن يلاطف بها مُخيّلته .
وهنا يتمنى لو أنه يبيت لو ليلة في وادي الغضى "القصيم حالياً"  .. و يلوم نفسه على قبول دعوة الوالي سعيد .



ألم ترني بُعت الضلالة بالهدى 
وأصبحت في جيش ابنِ عفّان غازيا 

لعمري لئن غالت خُراسان هامتي 
لقد كنتُ عن بابيّ خراسان نائيا

فلله درّي يوم أترك طائعاً 
بنيّ بـأعلى الرقمتين وماليا 

ودرُّ الظباء السانحات عشية 
يخبَّرن أنِّي هـالـكٌ مـن ورائيا

ودرّ كبيريّ اللذين كلاهما 
عليّ شفيـق نـاصح لـو نهانيا



وهنا يعود للوم نفسه على خنوعها وتراجعها، وتذكير نفسه أنّه اختار طريق الهداية عن رغبة تامة، وهو قد ترك أبناءه و حتى والديه الشيخين .. ثم يتسائل كيف صار في خراسان وهي أبعد ما يُمكن عنه، وما الذي أتى به بعد كل هذا الوقت ؟




تذكّرتُ من يبكي عليّ فلم أجـد 
سوى السيف والرمح الردينيّ باكيا

وأشـقـر خنذيذ يجرَّ عنانهُ
إلى الماء لم يترك له الدهر ساقيا 



وهنا بيتين في قمة البؤس والحزن، يحاول أن يتذكر من سيبكي عليه ويجزع حين دفنه، فلم يجد سوى سيفه الذي كان يستلّهُ من أيام قطع الطريق وفرسه الشقراء.  




ولمّا تراءت عند مرو منـيّـتـي 
وخلَّ بها جسمي وحانتْ وفاتيا

أقـول لأصحابي : ارفعوني فإنّني 
يقـرّ لعيْني أن سُهيـلٌ بـدا ليـا 

فيا صاحبيّ رحلي دنا الموتُ فانـزلا 
برابيـة ؛ إني مُقيمٌ لياليا

أقيما علي اليـوم أو بعض ليلةٍ 
ولا تعجـلاني ؛ وقـد تبيـّن ما بيا

وقوما إذا ما استُلّ روحي وهيّئا  
لي السَّدر والاكفـان ثم ابكيـا ليـا  

وخُطّا بأطرافِ الأسنّـة مَضْجَعي 
ورُدّا على عيـنـي فضْـلَ ردائـيـا




هذه لوحة الموت الأخيرة لمالك ورأس مال القصيدة إن صح القول.
 لا تحتاج لشرح ولا لتوصيف لجمالها، لوحة بديعة وجميلة على قدر هيبة الموت فيها، وكأن مالك ابن الريب يناقض القارئ بين الطرب على الوصف والتركيب الجمالي فيها، وبين أن موضوعها أصلاً هو شرح للحضات دنوه من الموت .





خُذاني فجُرّاني ببُردي إليكمـا 
فقد كنت قبل اليـوم .. صعباً قياديا


مبلغ عزة النفس ومنتهى الفخر هذا البيت، فهو يقول لرفيقيه أن هذا المكان "مقدمة قميصه" الذي ستشُدّاني منه وتحملاني لقبري، كان مستحيل الوصول على من قبلكم، وهذا أعظم الفخر بالنفس . 


وقـد كنت عطّافـاً إذا الخيـل أدبـرت 
سريعاً إلى الهَيْجا إلى من دعانيا

وقد كنت محمـوداً لدى الزاد والقـرى 
وعن شتمي ابن العم والجار وانيا




هنا مالك بروح كريمة ونفسٍ أبيّة يُذّكر بمكارم أخلاقه وفروسيته، وأنّه شجاع وقت تلاطم الفرسان وأول من يلبي النداء .



وقوما على بئر الشُّبَيك فأسمعا 
بها الوحش والبيض الحسان الروانيا

بأنـكـما خَلّفتُماني بِقَفْـرَةٍ 
تهيـل عليّ الريـحُ فيها السوافيا

ولا تنسيـا عهدي خليليّ إنني 
تَقَطّـعُ أوصالـي وتبلى عظاميـا

فلن يعدم الوالون بيتـاً يُجنُّـــني 
ولن يعـدم الميـراث مني المواليـا


ويا ليت شعري هـــل تغيرت الرحى 
رحى المثل أو أضحت بفلج كما هيا 

إذا مُتّ فاعتادي القبـور فسلّمي 
على الرّيم أسقيتِ الغمام الغودايا



وهذه وصيّته لمن دفنوه بألّا ينسوا عهده وذكراه وقد دفنوه في مكان مقفر قاحل بوسط الصحراء، وأن يزوروه دائماً .




أقلِّب طرْفي فوق رحلي فـلا أرى 
به من عيون المؤنسات مراعيا

وبالـرمل منـــا نسـوة شَهِدنني 
بكَين يفَدينَ الطبيـب المداويـا

فمنهن أمي وابنتـاها وخـالتي 
وباكية أخرى تهيج البواكيا

وما كان عهد الرّمل مني وأهله 
ذميما ولا بالرمل ودّعتُ قاليـا






ختم مالك قصيدته بعودته لحاضره وهو يقلب ناظريه حوله فلا يرى من يحب ولا يرى ونيساً اعتاده واعتاد تواجده .


مات مالك تلك الليلة عشرات المرات وهو يقول قصيدته الحزينة ومع كل بيت،  لكنّهُ يعيش مع كل ذكر لها، فقد رسخت بذاكرة القصيدة العربية تماماً، وتركنا مع سؤال بلا جواب، هل يحتاج الإنسان لظروف متطرّفة حتى يبدع؟ وهل يحتاج لدفعةٍ لأقصى حدوده وخارج مناطق راحته؟ 


ما نعرفه أن مالك لم يصدق، فليس سيفه الرُّديْني فقط من يبكيه .

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من منكم يعرف أحدًا، لمس الأمم المتحدة؟

ما الفرق بين ابن الرومي، والطيور الإستوائية؟

ليلة القبض على الذوق الرفيع.