بيضة الجنون أم دجاجة السُلطة : من أتى أولًا؟


"الرئيس الأبدي، المشير الحاج الدكتور، حامل صليب فكتوريا ووسام صليب الجيش، سيّد جميع وحوش البر وأسماك البحر وهازم الإمبراطورية البريطانية في أفريقيا عموماً وأوغندا خصوصاً" .


هذا ما كان يسّمي عيدي أمين رئيس اوغندا سابقاً نفسه .







بين الإستبداد والجنون كيمياء عالية جدًا وعلاقة خاصة ، وتوأمة تكاد تظهر في كل موقف للمستبد حتى لا يكاد يأتي أحدهم دون ذكر الأخر ولا يعرف إلّا به ، كحال  ستالين وماو تسي تونغ وعيدي أمين وبوكاسا والقذافي وغيرهم .
من أبسط القرارت الإدارية الخاطئة حتّى الجنون التام وأوهام العظمة والمؤامرة تتأرجح شخصية المستبد .. ويلعب الحشد الشعبي ومدى "الخضوع الجماهيري" دورًا حاسمًا في تحديد ملامحها .



لماذا الجنون بعد السلطة اذًا؟ 


في كتابه "حديث الشيطان" قابل ريكاردو أوزاريو قادة وزعماء ديكتاتوريين أُسقطوا عن عروشهم وانتهت رحلتهم .. وحادثهم وحادثوه بكل تجرّد وفي أضعف لحضاتهم الإنسانية ..
ويُلاحظ القارئ اختفاء أي شعور بالندم أو الحسرة أو حتى أدنى مسؤولية عن الأخطاء السابقة وما آلت إليه أمور دولهم بعدها .. السايكولوجية الإجرامية لم تظهر أي عاطفة بشرية، وجل انطباعاتهم كانت عن نظرية المؤامرة وعن وقوف الجميع ضدهم .. و ودّهم لو منحوا قليلاً من الوقت لتطبيق خططهم .


من وجهة نظر كاتب هذه السطور، ومن وسط عالم سياسي كان كريمًا جدًا بمنحه أمثلة ونماذج لحكام ديكتاتوريين وصلوا لسدّة الحكم بطريقة أو بأخرى، وتتلخّص أبرز خصائصهم في عدة سمات نفسية غالبة ومتحكمة .. 

جنون العظمة :  

كبداية .. فهذا جان بيدل بوكاسا حاكم أفريقيا الوسطى والذي يُسمّي نفسه "رسول المسيح المخلص" قد عين نفسه امبراطورًا و وزيراً لـ6 وزارات، وفي الوقت الذي كان شعبه يموت من الجوع أنفق ثلاث أرباع ميزانية الدولة للإحتفال بتنصيبه إمبراطورًا.



القذافي ملك ملوك أفريقيا مثل ما يحب تسمية نفسه كان حالة خاصة جدًا وفريدة ومتطرفة من جنون العظمة .. على لسان وزير خارجيته السابق عبدالرحمن شلقم كان القذافي يكره حتّى عائلته وأبناءه الذين يجبرهم على مناداته بلقب الأخ القائد، القذافي كان كل شيء لنفسه .
 
السلطة المطلقة بعد مسيرة ضعيفة "في أغلب الحالات" تأتي بنتائج كارثية في الإتجاه المعاكس، وكأن الحاكم قد نذر نفسه للتذكير بأنه دائم صاحب اليد العليا والقرار الحاسم متى ماشاء وكيفما شاء أينما شاء .. مهما بلغت هذه القرارات من "كارثية وفشل" فهو حاكم مطلق بلا سلطة محاسبة وبقدرات خارقة .



عقدة النقص :

أيضاً سمة مميزة لهم، عقدة النقص من شيءٍ قديم جدًا أحيان وأحيان عقدة تنشأ أثناء سنوات حكمه .. عيدي أمين صاحب الألقاب الثمانية قبل إسمه في حفل استقبال إحدى البعثات الدبلوماسية الأجنبية أتى بأربع رجال بيض البشرة لحمل ما يشبه العرش وهو فوقه يجلس، يحاول عيدي برهنة أن العرق الإفريقي أصبح هو المتفوق على العرق الأبيض .. كإنتقام لسنوات الإستعمار .
وبوكاسا الآنف ذكره كان يمقت إمبراطور أثيوبيا لأنه يفوقه مسمى ولأنه من عائلة امبراطورية فعلاً، وهذا مالا تقدر سلطة بيدل بوكاسا على جلبه .



نظرية المؤامرة .. الكل ضدنا :

في خمسينيات القرن الماضي وبعد إعلان ودعاية ضخمتين من حزبه الشيوعي الحاكم،  أعلن ماو تسي تونغ خطته الإقتصادية الضخمة التي ستكفل تحول الصين من دولة زراعية إلى دولة صناعية ضخمة وأسماها بالـGreat leap forward أو القفزة الهائلة إلى الأمام .. 





لكن الخطة الإقتصادية قد أعطت بوادر واعدة بالفشل الذريع .. فوجّه ماوتسي ضربة استباقية للعدو الذي ما لبث يحاول إفشال الخطة .. ألا وهو عصفور الدوري ! 
كحال أي مستبد طاغية تنعدم مسألة لوم الذات ومراجعة النفس عنده ، خطب ماو تسي في شعبه وأبلغهم أن عصفور الدوري الصغير كان يأكل المحاصيل وتجب مكافحته .. و وضع مكافئات لمن يقتل أكثر بل وتصوير من يجمع أكبر عدد من جثث العصفور المسكين كبطل قومي



ماذا حدث بعدها؟ انتشر الجراد الذي كان يأكله عصفور الدوري وأكل كل المحاصيل الزراعية وتسبب لمدة 3 سنوات لاحقة بأكبر مجاعة في العصر الحديث .. قرارات ماوتسي المركزية وقرارته التعقيبية لاحقاً تسببت بموت 40 مليون صيني، أسماها الإعلام الصيني وقتها بسنوات "الكوارث الطبيعية" رافضًا تحميل قائده أي لوم، وهذا يعيدني للمربع الأول : خضوع الجماهير .




مركزية القرار : أنا الدولة والدولة أنا :


صفة أصيلة في تركيبة المستبد النفسية، فهو يبلغ حد التأليه البشري لدرجة لا يمكن لأحد مناقشة أو محاولة التشكيك بقراراته وتقييم فعاليتها من عدمها .. مجاعات الدول الشيوعية خير برهان .
فهذا عيدي أمين يُقيل أحد وزراءه لأنه لم يرد على مكالماته، ثم يقيل وزير الخارجية معه بلا سبب ، و وجدوه لاحقاً مُلقى بين التماسيح في بحيرة فكتوريا .
وهذا هتلر الذي يقرر في لحظة تجلّي نقل الجيش الألماني خلف بولندا ومواصلة المسير نحو ستالينقراد وموسكو وإعلانه الحرب على ستالين، الحرب التي أدت لاحقاً لسقوطه ودخول الجيش الأحمر السوفيتي لقلب عاصمته .



هامش بسيط ولا يكاد يلاحظ من حرية الرأي، صحافة سخرت أقلامها للتسبيح بمجده، حزب شمولي أوحد يقضي على أي فرصة مشاركة سياسية وتعددية حزبية .. وتركيبة نفسية معقدة مضغوطة بالقدر المناسب من العقد الداخلية ، ظروف الجنون المناسبة لأي ديكتاتور.  

لكن السؤال يبقى .. هل السلطة قادرة على جعل الشخص "سلطوياً" مجنون ؟ أم المجنون يجد طريقه للسلطة بشكل أسرع وأسهل من غيره؟ 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من منكم يعرف أحدًا، لمس الأمم المتحدة؟

ما الفرق بين ابن الرومي، والطيور الإستوائية؟

ليلة القبض على الذوق الرفيع.