وتبّ كلّ ملكٍ يزدريني .


“لو وُضعت أشعار العرب في كفة وقصيدة عمرو بن كلثوم في كفة لمالت بأكثرها”. 

عن معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي .



في بلاطه الملكي، فاجئ ملك الحيرة عمرو بن هند اللخمي حاشيته بسؤال غريب : من تعرفون من العرب من تأنف أمّه من خدمة أمي ؟
وسط صمت الحضور جاوب أحدهم، لا نعرف من تأنف وتمتنع أمّه عن خدمة أمك سوى أم عمرو بن كلثوم ! 
فهي ليلى بنت "الزير" سالم بن ربيعة، عمّها الملك كليب ملك العرب وابنها عمرو بن كلثوم سيد قومه ومن كبار سادات تغلب .

فأضمر الملك نيّته، ولاحقًا دعى عمرو بن كلثوم و والدته لزيارته .. وكانت العادة عند زيارة بلاط الملوك عدم حمل الأسلحة، بدأت الوليمة هنا بكل سلام .. لكن هناك -في خيمة أم الملك- كان الوضع قد بدأ بالتوتر، احتالت هند بأوامر ابنها و طلبت طبقاً كان بعيدًا عن مكانها وأقرب لمكان ليلى أم عمرو، فقالت ليلى التي كانت لا تقل ذكاءً وفراسة ولا حتى خبثًا عن ما دبره المدبرون : فليقُم صاحب الحاجة لحاجته،

فلمّا ألحت هند أم الملك على ليلى صرخت ليلى "واذلّاه" وهنا سمع عمرو بن كلثوم صرخة أمّه .. وفي لحظة كتم الأنفاس وبتسارع أحداث جنوني وثب عمرو على سيف زينة كان منصوباً فوق عرش الملك ولا يوجد غيره، وسلّه وقطع رأس عمرو بن هند ملك الحيرة وسيد من سادات العرب، بضربة واحدة ! 
وأشار لمن كانوا معه أن يهموا بسلب بلاط الملك ويستعدوا للرحيل العاجل .. وهرب مع صحبه وأمّه وعاد إلى ديار بني حنيفة في نجد .
عاقب الملك المتآمر من وسط مقر حكمه و وصف الحدث بمُعلّقة فخرٍ وزهو، خلّدها التاريخ .
أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَـا
تُبْقِي خُمُـوْرَ الأَنْدَرِيْنَـا
مُشَعْشَعَةً كَأَنَّ الحُصَّ فِيْهَـا
إِذَا مَا المَاءَ خَالَطَهَا سَخِيْنَـا
صَبَنْتِ الكَأْسَ عَنَّا أُمَّ عَمْـرٍو
وَكَانَ الكَأْسُ مَجْرَاهَا اليَمِيْنَـا
وَمَا شَـرُّ الثَّـلاَثَةِ أُمَّ عَمْـرٍو
بِصَاحِبِكِ الذِي لاَ تَصْبَحِيْنَـا

كتب هذا البيت وهو في سن السابعة حسب بعض المصادر ، كانت أمّه تسقي خمرًا لأبيه وجده سالم الزير وبدأت من اليسار لأن ابنها كان على اليمين وهو طفل، فأنشد اول أبياته مستغربًا ولائماً أمه، وأنّه ليس بأشر من أبوه وجده كي تمنع الكأس عنه، وقد ضربه أبوه لمفاخرته عليهم .

أَبَا هِنْـدٍ فَلاَ تَعْجَـلْ عَلَيْنَـا
وَأَنْظِـرْنَا نُخَبِّـرْكَ اليَقِيْنَــا
بِأَنَّا نُـوْرِدُ الـرَّايَاتِ بِيْضـاً
وَنُصْـدِرُهُنَّ حُمْراً قَدْ رُوِيْنَـا
وَأَيَّـامٍ لَنَـا غُـرٍّ طِــوَالٍ
عَصَيْنَـا المَلِكَ فِيهَا أَنْ نَدِيْنَـا

بدأ عمرو مفخرته ببيتين يذكر فيه قبائل العرب العدنانية بسطوة قبيلته، فتغلب كانت قبيلة كريمة عظيمة قيل عنها "لو تأخّر الإسلام عنها لبلعت تغلب العرب" وهذا من الفخر الممزوج بالمبالغة .
فهذه رسالة للملك أبا هند بأن لا يستعجلهم فسيعلم من هو عمرو بن كلثوم ومن هي أمه الكريمة .

أَلاَ لاَ يَعْلَـمُ الأَقْـوَامُ أَنَّــا
تَضَعْضَعْنَـا وَأَنَّـا قَـدْ وَنِيْنَـا
أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا
فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا


أشهر بيتين في المعلقة وأكثرهن ذكرًا، والجهل في البيت الثاني يُقصد به العصبية القبلية والبطش والقوة الغاشمة التي لا تفرق بين سيد قوم وبين وضيع .. وهو ما اتصفت به تلك المرحلة الزمنية من حياة عرب ما قبل الإسلام حتى سميّت جاهلية .

بِاَيِّ مَشِيْئَـةٍ عَمْـرُو بْنَ هِنْـدٍ
نَكُـوْنُ لِقَيْلِكُـمْ فِيْهَا قَطِيْنَـا
بِأَيِّ مَشِيْئَـةٍ عَمْـرَو بْنَ هِنْـدٍ
تُطِيْـعُ بِنَا الوُشَـاةَ وَتَزْدَرِيْنَـا
تَهَـدَّدُنَـا وَتُوْعِـدُنَا رُوَيْـداً
مَتَـى كُـنَّا لأُمِّـكَ مَقْتَوِيْنَـا
فَإِنَّ قَنَاتَنَـا يَا عَمْـرُو أَعْيَـتْ
عَلى الأَعْـدَاءِ قَبَلَكَ أَنْ تَلِيْنَـا


تستمر مخاطبة عمرو للملك، فمتى كُنّا حديثًا لمجالسكم ومتى استنقصتنا ومنذ متى تسمع للوشاة فينا، والسؤال الأهم متى كنّا خدمًا لأمك ؟
وقد ذكّر الجميع بتهديد الملك .. ثم ذكّر بأنهم صعبي المرآس على من قبله .

وَرَثْـتُ مُهَلْهِـلاً وَالخَيْرَ مِنْـهُ
زُهَيْـراً نِعْمَ ذُخْـرُ الذَّاخِرِيْنَـا
وَعَتَّـاباً وَكُلْثُـوْماً جَمِيْعــاً
بِهِـمْ نِلْنَـا تُرَاثَ الأَكْرَمِيْنَـا
وَذَا البُـرَةِ الذِي حُدِّثْتَ عَنْـهُ
بِهِ نُحْمَى وَنَحْمِي المُلتَجِينَــا
وَمِنَّـا قَبْلَـهُ السَّاعِي كُلَيْـبٌ


فَـأَيُّ المَجْـدِ إِلاَّ قَـدْ وَلِيْنَـا
وَنَحْنُ غَدَاةَ أَوْقِدَ فِي خَـزَازَى
رَفَـدْنَا فَـوْقَ رِفْدِ الرَّافِدِيْنَـا

يُفاخر هنا بأصله الكريم من جهة الأب - فكلثوم أبيه وعتّاب جدّه- وفاخر بجده سالم المهلهل من أمّه، ثم قبلهم كلهم شقيق جدّه كليب ملك العرب وبطل يوم خزاز العظيم .
فأيّ مجدٍ ينقصه؟
 
وخزاز هو يوم للعرب اجتمعت قبائلهم تحت راية كليب بن ربيعة وهي لم تجتمع من قبل ذاك سوا على رجلين أحدهم أبو كليب ربيعة .
وهزموا فيه جيش تتابعة اليمن وقتلوا 9 ملوك منهم وكسروا شوكتهم منذ ذلك اليوم ولم يقم لهم من بعدها -لليمنيين- أي حكم ولا سلطة على العرب .. وكانت غالبية الجيش من القبائل الحنيفية .

وَقَـدْ عَلِمَ القَبَـائِلُ مِنْ مَعَـدٍّ
إِذَا قُبَـبٌ بِأَبطَحِـهَا بُنِيْنَــا
بِأَنَّـا المُطْعِمُـوْنَ إِذَا قَدَرْنَــا
وَأَنَّـا المُهْلِكُـوْنَ إِذَا ابْتُلِيْنَــا
وَأَنَّـا المَانِعُـوْنَ لِمَـا أَرَدْنَـا
وَأَنَّـا النَّـازِلُوْنَ بِحَيْثُ شِيْنَـا
وَأَنَّـا التَـارِكُوْنَ إِذَا سَخِطْنَـا
وَأَنَّـا الآخِـذُوْنَ إِذَا رَضِيْنَـا
وَأَنَّـا العَاصِمُـوْنَ إِذَا أُطِعْنَـا
وَأَنَّـا العَازِمُـوْنَ إِذَا عُصِيْنَـا
وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْـواً
وَيَشْـرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَـا


علمت قبائل معد بن عدنان "العرب" بأنّنا كرامٌ نطعم اذا كانت في مقدرتنا، ونهلك ونفني إذّا أجبرتنا الظروف المتطرّفة .
ثم يكمل فخره حتى يصل لبيت عظيم يكاد يكون معلّقة لوحدها، فشاربي الماء من تغلب يشربونه زلالاً مستساغًا على عكس غيرهم من العزة والقوة وقس على ذلك باقي صروف الحياة .

مَـلأْنَا البَـرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّـا
وَظَهرَ البَحْـرِ نَمْلَـؤُهُ سَفِيْنَـا
إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ
تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا


يُفاخر بالعدد كعادة العرب ذلك الوقت، ومن المبالغة العظيمة أنهم ملؤا البرّ والبحر سواء .. وختم قصيدته بمثل ما بدأها فخرًا وزهوًا .



الشي في بداياته عادة ما يكون بدائيًا ركيكًا كعادة التخبّط في كل البدايات .. لكن هذا لا ينطبق على الشعر الجاهلي الذي بدأ كاملًا قويًا وهذه المعلقة خير دليل .

ولغة التعصب والبطش عادة ما تكون نشاز في أذن المستمع، وهذا ممّا لا تجده هنا .


أطلس .


تعليقات

  1. والأعظم من عمرر ، طرحك للموضوع وبمثل مفاخرته واعتزازه لا شك بأنك محل فخر واعتزاز لأهلك واصحابك وكل من عاشرته ..استمر يا أطلس

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من منكم يعرف أحدًا، لمس الأمم المتحدة؟

ما الفرق بين ابن الرومي، والطيور الإستوائية؟

ليلة القبض على الذوق الرفيع.