وإنْ أنكرتني الجغرافيا ، ستعرفني اللغة
"انشأوا جسرًا في لندن ، وصفوه الألمان بأنهُ صلب ومتين ، وقالت عنه الصحف الفرنسية أنّه شاعري وجميل .. وبين وصف الألمان الجاف والوصف الفرنسي اللطيف المناقض ، يقف الجسر الخرساني الإسمنتي بينهم !"
في سنة من سنين طفولتي وفي وقت الظهيرة ، وأنا أشاهد لقطات لمسلسل كرتوني ، كان البطل على وشك إلغاء خططه مع أصحابه للخروج واللعب لأن السماء على وشك أن تمطر ، فكان هذا استغرابي الأول ! قبل أن يعبر البطل ومن معه عن خيبة أملهم وحزنهم لأن الأجواء غائمة ومعتمة جدًا مستخدمين كلمات مثل "مطر شديد ، غائم ، الشمس غائبة"
كانت هذه صدمتي الثانية ، لأنني ومن تحت شمس نجد الحارقة وفي وسط نسائم حارة لا تملك من وصف النسيم شيئًا لم أجد أنسب من وقتهم للعب والخروج ، ولا أجمل من كلماتهم التي ارتبطت ارتباط كلّي بسعادة الإنسان على أرض شبه الجزيرة ، ولها بصمة واضحه في اللغة والشعر ، لأن الأجواء الغائمة والماطرة مدعاة للفرح والسعادة لا العكس .
وبين خيبة أملهم ، ودهشتي .. تبدأ قصة جغرافيا اللغة .
اللغة والبيئة : تأثير السهلِ والجبل :
ليس سرًا أن للبيئة تأثير على اللغة ، وعلى محدودية استخدام المفردات وعلى القدرة على التعبير من عدمها ، فالإنسان رهين بيئته ، وما اللغة الا طريقة للتواصل تحتوي على توقيع بيئته ، وعلى قدرته على استيعابها .
حسب دراسة للعالم الأنثروبولوجي Caleb Everett درس فيها 7000 لغة ولهجة حول العالم ، وجد أن اللغات التي يتم التحدث بها في ارتفاعات عالية -1500 متر وأكثر عن مستوى سطح البحر- تكون مفرداتها أبسط وأكثر اختصاراً .. وذلك لعدة عوامل منها الضغط الجوي على الرئتين والذي قد يجعل استخدام الهواء في تشكيل الأصوات اكثر صعوبة .
وعلى العكس في المناطق المدارية الإستوائية ، فالمفردات أوسع والأصوات أكثر جهورية وذلك لعدم وجود عوائق طبيعية مثل الجبال .. والأرض سهلة منبسطة ممّا يسهل من انتشار الصوت و وصوله .
وقس على ذلك ، فاللغات التي تكون عادة في مناطق متطرفة بيئياً -باردة جدًا أو جافة وحارة جدًا- قد تمتلك رصيدًا من الكلمات الغليظة والعبارات الخشنة أكثر من غيرها ، وذلك عائد لتأثر الفرد وصراعه شبه اليومي مع ظروف بيئته للنجاة ، فما عاد للعبارات المستحسنة مكان ، وهذا ليس على اطلاقه .
هل تغير اللغة طريقة تفكيرنا ؟ الأبروجينيز كمثال :
محدودية مصطلحاتك تعني محدودية تفكيرك ، فاللغة هي ما تترجم به أفكارك وأراءك ، واللغة كتعريف بسيط هي محاولة الإنسان ترجمة صوته ، فبدل التخاطب بالرقص مثل النحل أو بالفيرمونات مثل النمل ، وضع الإنسان رموزًا ترجم وعرف بها أصوات معينة تؤدي وظيفة معيّنة ، فإن الأفكار قد زاحمت الصوت .
في شمال أستراليا وفي إحدى مستعمرات سكان استراليا الأصليين التي تسمي Porumpuraaw يوجد مثال فريد جدًا على قدرة اللغة بمساعدة البيئة على تحييد أفكارنا ، سكان المستعمرة لا توجد لديهم مصطلحات مثل : يمين ويسار وخلف وامام ، فتحديد الإتجاهات لديهم عكس ماهو متعارف عندنا ! وعلى العكس يستبدلونها بكلمات مثل شمال وجنوب وغرب وشرق .
سهلّت لهم هاذي القدرة اللغوية على تحديد اتجاهاتهم بشكل أفضل ، فالإتجاهات بالنسبة للرائي أدق بكثير من غيره ، وقد فضلّوا هذه الطريقة لكونهم يعيشون في مناطق شاسعة جدًا ومنبسطة .
الهوية الجغرافية : أخبرني ما مصطلحاتك أُخبرك من أنت :
واحدة من أبدع قصص التأريخ والتحقيق اللغوي ، قصة الشعب السلافي ، ففي القرن السادس الميلادي وعلى شكل موجات بشرية ضخمة بدأت هجرة للسلافيين "الصقالبة" وغزت أوروبا بشكل مروع وانتشرت انتشار النار في الهشيم ، في العصور الحديثة حاول العلماء اكتشاف أصلهم ومن أين أتوا وباءت كل المحاولات بالفشل .
بالعودة للغتهم لم يجد العلماء ما يمكنه حسم الموضوع وحل الخلاف ، فلا وجود لكلمات مفتاحية أو دلالية تشير إلى مكان معين على الخارطة .
كيف حل العلماء المشكلة؟
سأل أحد العلماء نفسه ، لماذا بدلًا من البحث عن الكلمات التي لديهم وهي طريقة أثبتت فشلها ، أن نبحث عن الكلمات التي لا توجد لديهم ؟
قد يبدو حلًا سخيفًا ، لكنّهُ عبقري جدًا .. وذلك أن علماء اللغة لاحظوا أن السلافيين يملكون كلمات مرادفة للأشجار الجديدة التي صادفوها في اوروبا ، ما عدى شجرة الزان والصنوبر .. وكانوا السلافيين لا يعبرون عن هذه الأشجار ويتجاهلونها أو يستخدمون تسميات خارج لغتهم ، وبحصر البحث لاحقًا ، اكتشفوا أن هناك منطقة واحدة في أوروبا ينطبق عليها الوصف ، ولا تنبت فيها الأشجار التي ذكرت أعلاه ، وهي أراضي المستنقعات الشرقية -أوكرانيا حالياً- .
استخدم العلماء جغرافيا اللغة هنا وبشكل ذكي وحاسم ، وساهمت اللغويات التاريخية في الكشف عن تاريخ مهم جدًا .
ولا تقف الأمثلة عند هذا الحد ، فتيد كازينسكي عبقري الرياضيات والمسؤول عن إرسال القنابل والطرود المفخخة في أنحاء أمريكا كلها وصاحب أشهر وأطول مطاردة في تاريخ أمريكا ، انقاد للسجن بعد ملاحظة لغوية من قبل المحقق جيمس فيتزجيرالد ، الذي لاحظ استخدام تيد لعبارة قديمة في خطاباته للصحف ظنّوا في البداية أنها خطأ املائي : you can’t eat your cake and have it too ، والتي تعني اصطلاحاً : لا يمكنك الحصول على شيء بطريقتين .
وبواسطتها حددوا منشأ القاتل والمنطقة الجغرافية التي عاش وكبر فيها ، ومن خلال تحليل باقي خطاباته حددوا درجته التعليمية وعمره .. لسانك حصانك .
وحتى إن ابتكر الإنسان طريقة جديدة للتواصل من غير استخدام الحروف ولا الرموز ، فإن لبيئته وجغرافيته بصمة وتأثير ، فهو ابنها ومنها يستمد هويته ويصنع كيانه .. فلو كُتبت هذه المقالة في سهلٍ أو جبل ، أو كان صاحبها يسامر القمر في البر أو مستلقي بجانب نهر ، هل كان القارئ ليشعر؟
وهل علم البابلي القديم عندما عوّض فقر لغته بأن استعاض بصورة الشمس الساطعة للتعبير عن الإله ، هل علم أنّه وبعد الاف السنين سيفهم كاتب هذه السطور قصده؟ وهل سيرضى أبو صخر الهذلي عن اتهامي للبيئة في التسبب بجلفة وغلظة عبارات ولغة الإنسان وهو ابن البيئة الجلفة و صاحب هذا البيت :
تكاد يدي تندى إذا ما لامست يدها
وينبتُ في أطرافها الورق الخضرُ
للبشر طريقة مشتركة في التعبير عن مشاعرهم وإن اختلفت ألسنتهم وتباينت ، فالخبر السعيد الذي "يثلج" صدر العربي في الصحراء ، هو نفسه الذي "يُدفئ" قلب دويستوفسكي الكاتب الروسي العظيم ، المشاعر واحدة ، لكن الجغرافيا تختلف .
- آطلس .
القارئ الشغوف بدأ يفهم الآن السبب وراء أسم اطلس. فأنت لم ترضى بأن تكون لك بقعة جغرافية واحدة تسكنها فقط! بل سافرت الى جميع انحاء العالم قرأت قصصها وعرفت حضاراتها وتعددت عندك المعارف وتوسعت المدارك ولم ترضى ان تعيش الحاضر بل عدت الى الماضي وتوقعت المستقبل وأصبحت اطلس ب علمك و ثقافتك ونقلك وربطك للمواضيع لنا فهنيئا لك.
ردحذفهنيئًا لي بردك وهنيئًا لي بكلامك الرائع 🙏🏻
ردحذف