تغريبة آل ماونباتن .
"ربّما يوجد في صفوفنا ملوك وملكات ، وأمراء ، لكنّنا بلا وطن وبلا هوية ، جزء منّا ألماني والأخر يوناني والثالث بلا جنسية .. لكننا "آل باتينبيرغ" بلا وطن !"
- حفيدة أحد أعرق الأسر الحاكمة في التاريخ ، آليس باتينبيرغ .
قبل أن ابدأ تدوينتي ، وجب علي استئذان بني هلال الكرام في استعارتي للوصف الذي أطلق على هجرتهم وتغرّبهم من شبه الجزيرة العربية حتى وصولهم شمال أفريقيا بحثًا عن الحياة والنجاة ، وذلك لتشابه ما حدث لهم مع شخصيات قصتي .. فإن اختلفت الظروف والجغرافيا سيتفق المصير .
22 سبتمبر من العام 1922 في اليونان، في أجواء مرعبة و وسط ملاحقة جنود الإنقلاب لهم ، قرّر الزوجان الهروب على متن سفينة تجارية حتى لا يتم قتلهم ، صعدوا على متن السفينة وخبئوا ابنهم الرضيع ذو الشهور المعدودة في صندوق برتقال ، ونجحوا في الهروب بمعجزة ما لفرنسا ، وبعد سنين من الهروب الناجح أُدخلت الزوجة في مصحّة نفسية بعد تشخيصها بحالة مستعصية من الشيزوفرينيا وقرر زوجها الإستمتاع بحياته بعيدًا عنها في الجنوب ، وعن ابنها الذي أضحى بلا عائلة فجأة .
قد تبدو لك هذه القصة المقتضبة كقصص اللجوء المعتادة عن عائلة منكوبة نجحت في الهروب من بلدها لكنها فشلت في الهروب من مصيرها ، لكن القصة أعمق وأبعد في حال أضفت الأسماء والصفات .. فالزوج هو الأمير أندرو أمير اليونان والدنمارك والأم هي أليس ماونباتن أميرة اليونان وحفيدة بيت باتينبيرغ ، وابنهم هو الأمير فيليب ماونباتن دوق أدنبرة، زوج اليزابيث ملكة بريطانيا الحالية .
كبش الفداء : بداية سنوات التيه :
في اليونان ومنها بدأت سنوات ضياعهم ، حمّل القوميين اليونانيين مسؤولية هزيمتهم في الحرب للأسرة المالكة ، ومع تصاعد الدعوات الرافضة للملكية في كل أوروبا ومع موجة التغيير ومقتل الملك جورج الأول ملك اليونان ثم عزل قسطنطين ابنه "عم الملك فيليب ماونباتن" ، رأى الأمير أندرو والد فيليب أن قرار الهروب كان الأسلم .. وقرر جده من والدته الأمير لويس باتينبرغ تغيير اسم العائلة الذي يعكس أصولهم الألمانية القديمة إلى ماونباتن وذلك منعًا للعار والحرج إثر تزايد مشاعر الكراهية تجاه الألمان ، ومثله فعل الملك جورج الخامس ملك بريطانيا الذي غير اسم عائلته من "كوبيرغ غوتا" إلى وندسور وهو الإسم الموجود ليومنا هذا .
وآل ساكس كوبيرغ غوتا "أجداد اليزابيث" وأبناء عمومتهم آل باتينبرغ "أجداد فيليب وآل ماونبتن" هم أسر ألمانية الأصل حكمت إقطاعيات ضخمة ، تعود أصولها الأقدم لأسر أكثر ضربًا في جذور التاريخ وهي أسرة فيتين وأسرة هسن ، وهم دوقيات ساكسونية كان لها حضور في تاريخ ألمانيا السحيق ، أثرت وتأثرت مثل غيرها بالتحولات السياسية واستفادت منها حتى تقدمت صفوف الملكيات في تاريخ أوروبا الحديث .
عاش فيليب من سن الخامسة حتى لقاءه بإليزابيث أثناء دراسته في الكلية البحرية كفرد منعزل من عائلة ماونباتن ، لكن ليس الوحيد .
الأمير في سلاح الجو ، والأميرات نازيات :
لعلّها مفارقة عجيبة وكوميديا لا تقل سواد عن ماضي العائلة ما حدث في الحرب العالمية الثانية ، كان فيليب مناهضًا للإجتياح النازي وقبله الدعوات لقيام جمهورية هتلر ، بينما شقيقاته الأميرات صوفيا وسيسيل وثيادورا كانوا نازيات وقد تزوج بعضهن بشخصيات نازية نافذة ومتنفذة في الرايخ الثالث ، خدم فيليب في سلاح الجو البريطاني ونفذ عمليات بطولية من ضمنها عملية شجاعة لإنقاذ طاقم مدمرة بريطانية بالقرب من صقلية .
لكن لفهم سبب ما يحدث لآل ماونباتن ولغيرهم من أسر أوروبا الحاكمة التي أضحت لا تملك شيئًا من ما ملكه أسلافها غير الإسم واللقب ،ولأن ما حدث لهم برغم فضاعته وفوضويته ما كان إلّا قمة الجبل الجليدي ، الذي كان ثلاثة أرباعه استراتيجية وتخطيط يقودني للحديث عن حلم فيكتوريا الجريئ الفاشل ، فما علاقته؟
الزواجات الملكية : مخطط فيكتوريا للسيطرة على أوروبا :
في تقدم زمني سريع ، ومن ظروف الانقلابات العسكرية والحروب العالمية في القرن العشرين إلى أجواء زواج القرن في العصر الحديث بين الأمير ويليام وكيت ميدلتون ، وتحديدًا في هذه اللقطة نرى تجليًا واضحًا لحلم الملكة فيكتوريا جدة الملكة الحالية ومخططها الذكي للسيطرة على أوروبا التي كانت تضج بالملكيات والإقطاعيات في كل زاوية ، عن طريق الزواج والمصاهرة ، فضيوف الزواج جميعهم حكام وملوك تربطهم صلة قرابة ودم مباشرة .
ظنّت الملكة على ما يبدو أن أبناء العم والخالة وإن كانوا في دول متقاطعة و وسط حرب نفوذ وصراعات مصالح وإرثٍ كبير من الخلافات القديمة ، قد يدمحون ويتجاهلون خلافاتهم أو قد يحل الدم المشترك في عروقهم محل حروبهم .
وظنّت أنها ستخفف بذلك حدّة الحروب بينهم وتضمن على الأقل ما يشبه الكونفيدرالية الملكية إن هي ضمنت صلة قرابة بين ملوك بريطانيا العظمى وقياصرة روسيا وألمانيا وإمارات وسط وشمال أوروبا ، بل وحتى جنوبها في اليونان ، والسبب الأهم كان أن توفّر تلك الملكيات لبعضها الدعم اللازم في وجه الثورات ومنعًا لتساقط كل ملكية بمعزل على وزن أُكلت يوم أُكل ملوك من بجانبي .
بدأت شبكة المصارهات بتزويجها لإبنتها الكبرى فيكي لولي عهد بروسيا "أغلب ألمانيا حالياً" ثم لحق فيكي شقيقاتها بيتريشا وهيلينا ، وأشقائها ليوبولد وآرثر الذين شاركوا نسلهم الملكي مع ملكيات ألمانية أُخرى .
في عام 1880 كان المخطط يمشي بنجاح ، وزّعت فيكتوريا احفادها على أغلب مناطق أوروبا ، 42 حفيدًا مباشرًا لها كأمراء منهم 7 كحكام ذوي سلطة ونفوذ .
هل نجح مشروع الزواج الفيكتوري ؟
على العكس ، ماتت فيكتوريا في سنة 1901 ولم تعش لترى حرب الملوك بين أحفادها وسقوط مخططها مثل ما تساقطت الملكيات لاحقًا كالعقد ، في الحرب العالمية الأولى قاد قيصر روسيا نيكولاس الثاني تحالفًا مع ابن خالته جورج الخامس ملك انقلترا ضد قريبهم زعيم ألمانيا القيصرية القيصر فيلهيلم الثاني ، ودخلت اليونان على الخط ، ورغم اتخاذ باقي الملكيات الحياد إلّا أن نتائج الحرب أدت لنهاية أوروبا ذات الطابع الملكي تماماً ، وهي ما تنبأت بهِ فيكتوريا لكن فشلت في تجنّبه .
بقي اليوم من أوروبا الملكية ممالك دستورية متفرقة سمّتها الملكة إليزابيث الأم زوجة جورج السادس "بالحكّام الدمى" سخريةً من ضعفهم وعدم قدرتهم على إتخاذ قرارات .
ودفعوا آل ماونباتن ما يشبه الثمن لمخططات السيطرة المطلقة ،ووصلوا إلى ما وصلوا إليه وآلت له مصائرهم نتيجة لذلك ، بعد أن كانوا ملوكًا على أجزاء شاسعة على أوروبا ومتحكمين بمصائر شعوبها تغرّبوا وتشتتوا ولم ينقذ ذكرهم سوا مصاهرة وافق عليها جورج الخامس على مضض ، لو اختلفت اجابته لما كتبت هذه التدوينة ، والتاريخ تفاصيل .
كان فيليب يتلقى تعليمه في أحد أرقى مدارس أوروبا عندما تلّقى خبر وفاة أخته سيسيل في حادث تحطم طائرة .. وجورج الخامس كان يستمتع بالتبجيل الشعبي احتفالاً بنصره المؤزر عندما سمع خبر اعدام ابن خالته قيصر روسيا مع عائلته في موسكو .
نوع من القسمة في حياة الملوك قد يكون عادل أحيانًا وأحيانًا لا ، ترتد الحياة عليهم وتحمل معها ما يغيّر مصائرهم ويقلب حياتهم رأسًا على عقب ، فتصبح أليس والدة فيليب راهبة تقدم خدمات علاجية خيرية للمرضى طوال حياتها في اليونان في كنيسة متهالكة قائمة على تبرعات ولم تلم شملها مع ابنها في بريطانيا إلّا قبل وفاتها بسنتين .
ولم يدر بخلد الفرد المنكوب الأخر من "الماونباتيين الذين تاهوا في الأرض" الأمير لويس ماونباتن الذي أقيل من منصبه ككبش فداء سياسي ، أنه سيدفع ثمن أصوله الملكية ويتلقى لاحقًا قنبلة في يخته وضعها الجيش الجمهوري الإيرلندي الذي رأى فيه أيقونة إستعمارية ترمز للطغيان !
رضيع صندوق البرتقال وحفيد الملكية المنهارة وشقيق النازيات أصبح لاحقًا أحد أهم رموز الملكية الأقوى والأثبت في الكوكب كله .
"رأيت الدهر مختلفاً يدورُ
فَلاَ حزْنٌ يَدُومُ ولا سُرُوْرُ
وقد بنت الملوك به قصوراً
فلم تبق الملوك ولا القصور"
تعليقات
إرسال تعليق