شعب الله المُختال .
"الأقوى والأصلح هم من أعطتهم الطبيعة الحق في الحياة ، ويلٌ لأي ضعيف ، ذاك الذي لا يملك أن يحمي نفسه عليه ألّا ينتظر أحد" .
الأول على اليمين ، أدولف هتلر .
في العام 1788 ، لاحظ ويليام جونز وهو بيولوجي بريطاني وباحث ، لاحظ تشابهًا وتطابقًا كبير جدًا بين اللغات التالية : السانسكريتية واللاتينية والإغريقية والألمانية والكلتية مما ينبئ بوجود أسلاف مشتركة بينهم وماضي سحيق ، واستمرت النظريات لاحقًا حتى طوّر توماس يونغ مصطلح "هندي-أوروبي indo-European" كأصل مشترك وتسمية ثابتة لهذه اللغات ، مؤسّسين بذلك خلفية تاريخية وثقافية ، وحاضنة مهمة لظهور ثلاث دعاوي مختلفة ، دعوة بتفوق عرق ، ودعوة حق سيطرة وتملك ، ودعوة أن ما دونهم أدنى ، ودائماً أدنى .
رحلة الصيف الطويلة : من هم الآريين ؟
حسب الفرضيات ، قدمت شعوب ذوي بشرة فاتحة وقامة متوسطة على شكل هجرات متتابعة من أوروبا وتحديدًا حول المنطقة المحيطة ببحر البلطيق ، قدموا من مناطق باردة بحثًا عن أجواء دافئة وقاموا بغزو المنطقة من جنوب ايران وصولًا لشمال الهند التي كانت تسمى في ذلك الوقت بحضارة السند .. وهي واحدة من أقدم الحضارات في التاريخ ومن أوائل الحضارات التي أسست للمدنية ، أنهى الضيوف الجدد تلك الحضارة، وكانوا الضيوف الآريون في ذلك الوقت مجرد قبائل أوروبية - هندية كثيرة التنقل والترحال ، أسسوا حضارتهم الأولى التي تسمى بالعصر الفيدي نسبة لتعاليم فيدا ، وهي نصوص مقدسة نشأت منها لاحقًا الديانة الهندوسية .
استمرت الشعوب الآرية في هجراتها وتنقلها ، ويعتقد البعض أن الشعوب الهندية والإيرانية والجرمانية والكلتية "أي معظم الأوروبين اليوم والأمريكيين" هم نتاج شعب عاش في سهول البنجاب .
الشعب البيولوجي المختار : كيف تفوّقوا ؟
تشير كلمة آري في اللغة السنسكريتية القديمة إلى النبل والتميز ، لكن دعوة التميز والتفوق هي دعوة حديثة بإمتياز ، بدأت النكبة تحديدًا في عام 1853 وعلى يد آرثر دو جوبينو ، كتب الفرنسي مقالًا يعلن فيه صراحةً عدم تساوي بعض الأجناس ، ويدّعي وجود اختلافات عرقية طبيعية بين البيض الجرمان وبين باقي الشعوب البشرية ، وأنه وحسب "النظرية الجوبينية" إن صح القول فإن الحروب الإستعمارية وسرقة مقدرات وممتلكات الدول واستعباد الأفارقة أو غيرهم من الشعوب ماهو الّا حق بشري أصيل ، كفلته الطبيعة للآريين لا لشيء عدا أنهم ولدوا لجد مختلف ، وبقامة معينة ولون أعين فاتح ورأس ذو استقامةٍ أكثر ، وأنّ كل ما ذكر من جرائم بشرية وفضائع ليست نزوات ولا حب تملك وسيطرة يعاقب عليها الضمير وترفضها الفطرة ، إنّما هو حق ، وجب على الطرف الأخر تقبّله لأنه من عرق أدنى .
لاقت أفكار جوبينيو قبول وتلقّفها العديد من الأكاديميين والباحثين المتحمسين -والعنصريين- بالمقام الأول ، وقام تلاميذه لاحقًا بتحديد الأوصاف التي ذكرتها فوق كالشكل المثالي للفرد الآري ، ثم حدّدوا أهم صفة : على الآري أن يكون لديه نزعة طبيعية للعنف والعدوان !
شعب يشعر بالعار وجندي مهزوم : كل ما يتطلبه الأمر :
بعد هزيمة ألمانيا على يد الحلفاء في الحرب العالمية الأولى وتوقيع معاهدة فرساي المذلّة جدًا ، كان الشعب الألماني قد شعر بنوع ساحق جدًا من العار والذل ، فكان لابدّ من رسالة توحدهم ورسول يُلهمهم وتعيد للشعب الجرماني الأبيض تفوقه وتحيي عظامه الرميم ، وهذا ما تم .
في أحد اجتماعات جمعية تول وهي جماعة عنصرية تتبع حزب العمال الألماني في مدينة ميونخ ، وفي العام 1919 ، جلس الجاسوس الذي كان مُرسلًا من الجيش للتنصت على الجمعية ومعرفة أهدافها في أقصى الزاوية ، ثم وقف في آخر الإجتماع يصفق منتشيًا كعربي يتسمّع موشحة أندلسية ، ثم ما لبث الجندي النحيل أن اعتلى المنبر وبدأ يخطب بحماسه أثارت اعجاب رئيس الجمعية الذي كان منبهرًا بالقدرات الخطابية لجاسوس الجيش ، وانبهر أكثر بالعبارات العنصرية عن وجوب عودة الألمان لزعامة العالم كما كانوا وكما هو مقدرًا لهم .
زعيم الجمعية كان ديتريخ ايكارت ، كتب ديتريخ قبل سنوات من لقاءه بالجندي عن حاجة ألمانيا لمُخلّص يخلص ألمانيا من هزيمتها وينفض عنها غبار الذل والعار ، وجد ديتريخ ضالته ، الجندي كان آدولف هتلر .
قضية غير عادلة ، ومحامي مجنون :
لعل واحدة من أصدق العبارات هي عبارة أن "لكل قضية عادلة محامي فاشل" الّا في قضية التفوق الآري ، فالقضية مجرد أماني نفس وادعاءات ، تلقّفها أسوء محامي يمكن توكيله الا وهو مستشار الرايخ الثالث وزعيم ألمانيا العائدة من جديد آدولف هتلر ، فبعد وصوله لسدة الحكم بدأ هتلر أول خطوات تحويل نظرية التفوق الآري لواقع عملي على الأرض .. فطالب بعودة النمسا لألمانيا وأعقبها ببولندا ، ثم ترك بصمته الأكبر الا وهي أفران الغاز -الهولوكوست- الذي أحرق فيها اليهود ، بإعتبارهم عرق أدنى وبإعتبارهم سبب رئيسي في ما وصلت له ألمانيا من انحطاط غير مسبوق ومن شيوع للفساد والربا ، كما اتهم اليهود بأنهم أغرقوا السوق بتعاملات مالية فاسدة ومشبوهة ، ثم آخر اتهاماته لهم وأخطرها ، أنهم يهود وليسوا آريين !
التعامل مع أفعال هتلر على أنها نتيجة طفح كيله تجاه اليهود ، وتشريعها لا لشيء سوا أنها ضد يهود ، خطأ تاريخي وحكم ناقص تمامًا ، فلو كان مكان اليهود أفارقة لا فعل هتلر الشيءَ نفسه ، ولو كانت شوارع النمسا مكتضة بمحلات عليها يافطات عربية لكان "عبدالله وأحمد وأختهم هاجر" أول زوار معسكر أوشفيتز الذي تم فيه قتل مليون شخص عن طريق خنقهم بالغاز ، فهتلر يتعامل مع من سواه من الشعوب على أنهم عرق أدنى وبشر درجة ثانية هم أقرب لمملكة الحيوان من هتلر نفسه .
مصطلحات مثل "قانون طبيعي للإبادة" و "البقاء للأصلح كانت عبارات دارجة في الأوساط العلمية والأكاديمية المرموقة في ألمانيا حتى من قبل هتلر ، اذ كانت الداروينية الإجتماعية تعيش أيامها السعيد في ظل وسط علمي يؤيدها ، وأمّة تريد أن تشرّع أنشطتها الإستعمارية على حساب غيرها بنص بيولوجي مقدّس إن صح قولي .
لعل لألمانيا تاريخ يشع سوادًا ناصعًا من الدونية ومن إجبار الشعوب على تقبل دعاويها للسيطرة بإسم العرق الأبيض ، الذي كانت ألمانيا القيصرية "والجمهورية لاحقًا" قد كفلت له حمل رايته ، فهذا القائد الألماني ڤون تروثا يقوم بواحدة من أكبر الإبادات العرقية في التاريخ بقتله لـ120 ألفًا من شعب ناميبيا ، وبمبادئ داروينية تطورية بإعتراف القائد نفسه .
كل مؤثر بالضرورة آري وكل آري بالضرورة مؤثر :
تستمر القضية المترنحة بدعوة أكثر عجبًا ، ينسب بعض المؤيدين للنظرية الآرية أن كل شخص مؤثر على مر التاريخ وكل ملهم وكل من له يد في اضافة فصل ملحمي لتاريخنا ، هو بالضرورة القصوى آري أو على الأقل له صلة ولو بعيدة بهذا العرق كفلت له نقل جينات ساهمت ببزوغه ، فنابليون بونابر ويوليوس قيصر والإسكندر الكبير وليو دافينشي وفولتير وماركو بولو جميعهم آريين بشكل أو بآخر سواء رضى التاريخ أو لا ، وسواء قبل علم الجينات أو لا .
وحتى المسيح عيسى عليه السلام ، صاحب التأثير الكبير في الديانات السماوية الثلاث يُعتقد أنه آري من جهة أمّه ، رغم أنه ولد في منطقة الجليل لمريم المجدلية التي كانت من عرق سامي -غير آري- ، وهم بذلك يعتقدون أنهم يمنحون تفسيرًا لقوة تأثير المسيح ولصموده في وجه أعظم امبراطورية في زمانه .
التباين البشري موجود ،والنزعة للسيطرة والتفوق سمة غالبة في الجميع من بدء الخليقة وهو سبب في تعاقب الأمم ونهوضها وسقوطها هنا وهناك ، والإختلافات الطبقية والفوارق موجودة بين البشر كأفراد لا كشعوب ومجموعات ، وهذه من سنن الله في الأرض .. لكن النظر للتباين على أن له أساس علمي لا لشيء إنّما لتفسير هزيمة أو إلقاء اللوم على عرق دون الأخر للتخلص من الذنب هو نشاز تأريخي وبيولوجي يصم الآذان ، وفي أحيان كثيرة يثير الضحك .
رفض كارل ماركس وجود اختلافات بين البشر ورفض فكرة السادة والعبيد والنبلاء والعمال فقدم الشيوعية التي ما لبثت أن انهارت في مهدها ، ثم قام هتلر ومن معه بالإتجاه أقصى اليمين بشكل مرعب وأنتجوا نازية دموية .
وحتى إن اعتبر غوستاف يايجير عالم الحيوان الألماني أن حروب الإبادة قانون طبيعي بدونه سوف ينهار العالم العضوي ، وحتى وإن دعم كلامه علماء بارزين مثل فريدريك هيلفالد وزيغلر وغيرهم ، فالحرب وان قالوا أنها طريقة لضمان بقاء الأصلح و "انتخابه طبيعيًا" فإنها دائمًا ما تقدم للسلطة قادة يضمنون عمرًا قصيرًا لدولهم ويكونُ مشوارهم الرئاسي حافلًا بالكوارث ، وأخيرًا ، أتى هوستن تشامبرلين بما لم يأتِ به أحد من قبل ، وتطرّف برأيه وادّعى أن الله اختص الآريين برسالة مقدسة لإنقاذ البشرية من الإنحطاط ، جدير بالذكر أن تشامبرلين صديق مقرب لهتلر ، وتأثر كلٌ منهما بالآخر .
وإن كان التاريخ دائمًا ما يلفظ الأفكار المثيرة للسخرية ويرسلها لمزبلته في النهاية لتكون مادة للتندر والسخرية ، الّا أن دعاوي التفوق الأبيض آخذة في التقدم بكل قوة تحمل معها عنصرية ودونية ، وتؤثر بشكل واضح في السياسة والإقتصاد وفي خطط الدول ، وما صعود اليمين المتطرف في أوروبا وما رفض ترامب لتجريم جماعة كو كلوكس كلان وما قتل جورج فلويد وغيرها من حوادث العنصرية الّا قمة الجبل الجليدي ، وعسى أن لا نرى ما بقى منه .
"إنه من الواضح بشكل مثير، من أدلة التاريخ، أنه حين يختلط دم الآري بدماء غيره من الشعوب المنحطة فإن النتيجة كانت بلا نزاع دمارًا على الأجناس المتحضرة"
اقتباس من كتاب هتلر "كفاحي" .
وإذْ نادى اليهودي بأنه فرد مختار من شعب الله المختار ، فقد نادى الآري بصوت أعلى بأنه الشعب البيولوجي المُختال ، والمُفاخر .. وبين صراعهم على ساحة أرض التاريخ ، دونّ العربي هذه السطور .
- آطلس .
تعليقات
إرسال تعليق