زوروه عنّي ، لكن لا تبلّغوه حنيني .
أنا ، أيها السادة، لست ممن يعتقدون أّنه بالإمكان إزالة الألم من هذا العالم، فالوجع قانون إلهّي. ولكّنني من بين الذين يعتقدون ويؤّكدون أّنه يمكننا القضاء على البؤس" .
- فيكتور هوغو في خطابه للبرلمان الفرنسي .
العام 2150 في مستعمرة بشرية على كوكب ما في مجرة قريبة، حطت مركبة تابعة لأسطول طيران ايلون ماسك "المجرّي" وتحمل على متنها الأبطال ! صانعوا المعجزة الذين أتوا بأعظم انجاز بشري في التاريخ .. حطت بهم المركبة وسط هتافات الجماهير -نصفهم بشر ونصفهم جيراننا الفضائيين الذين علمنا بأمر وجودهم لاحقًا- المنتشية .. زفّت الجماهير الأطباء الثلاثة الذي أعلن كبيرهم فور صعوده على المسرح المعد :
"نعم، ما سمعتوه صحيح .. كانت رحلة متعبة بالطائرة لكنّنا قد اكتشفنا واخيرًا لقاحًا للحزن ! سنقضي على الحزن والبؤس وغيره من المشاعر البشرية الضارة التي لا نفع منها سواء صنع المآسي والتسبب بها نحنُ يا سادة...."
ثم قاطعه صوت من بعيد يسأل بطريقة ساخرة لا مبالية ، هل الحزن خلل اصلًا ؟ ومن الطارئ على الآخر، حزننا أم سعادتنا ؟ وكيف نفرح بشيءٍ سيقضي على طبيعتنا ؟
أجاب الطبيب في صدمة : ما أنا متأكد منه فعلًا .. هو أن الرحلة متعبة .
أصل الإنسان : سعادة أم شقاء ؟
لعل أول ما يجول بخاطري بعد هذا السؤال بيت بهاء الدين زهير ، وأقول فيه بتصرّف :
وفي النفس أسئلة إليك كثيرة
أرى الشرح فيها والحديث يطول
فلا يمكن تحديد فعلًا ما اذا كان الإنسان بأصله حزين أم سعيد ،شقيٌ منذ ولادته أم مكتوب له الفرح والنعيم اذا ما نجّاه رب العالمين من صُدفٍ تعكر حياته ، أم هل الإنسان على درجة ما من الحيادية الفطرية تجعله على مسافة واحدة من حالاته النفسية المذكورة ، ثم يميل نحوها يمنة ويسرة حسب مجريات حياته !
ماذا لو كانت لحضات السعادة هي شذوذ عن القاعدة، والقاعدة تقول أنك بأصلك وطبيعتك حزين وبائس .. وخائفٌ تترقب الحدث القادم الذي سيجعلك أكثر بؤسًا ، مالم تخطف لحضات سعادتك وتصنعها رغمًا عن الأيام .
لعل واحد من أكثر الأدلة الحاسمة على أن الإنسان قد حُكم عليه بالشقاء من أول ما تبصر عيناه النور، هي تلك الحاجة الدفينة لتحقيق الرغبات والأهداف وصنعها حتى لو لم تكن موجودة .. ثم السعي اللانهائي وبذل الجهد نحو رسم أهداف وطموحات لتحقيقها يحكم على نفسه بالتضحية وبذل النفس من أجلها .. وحتى لو كانت رغباته البيولوجية قد تم تحقيقها مسبقًا وكان بلا هم يؤرقه ، سيصنع الإنسان واحدًا .
الحزن ماهو الّا خطأ ، كيف سخرت "الرواقية" من مآسينا :
في خضم همومه اليومية وتعامله معها، و وسط تسارع أحداث حياته، أتاه أحدهم ينبئه بغرق مركبه الذي يحمل جلّ ثروته ، قرر الشاب زينو القبرصي الرحيل لآثينا عاصمة الفلسفة، وللتعامل مع مُصابه، قرر القراءة لسقراط ولغيره من الفلاسفة .. ودرس مدارس الفلسفة وابحر فيها مثل المدرسة الميغارية .. ثم أسس فلسفته الرواقية، وهي فلسفة تعزو كل شيء للمادة ولوحدة الوجود .. وأن كل شيء منبثق من نفس الشيء ، لكن ما يهم هو كيف تتعامل الفلسفة مع الحزن ، وهي طريقة فريدة بحق !
يتعامل الرواقيون مع الحزن وغيره من المشاعر البشرية على كونها هدّامة، تستهلك الإنسان وتقضي عليه لذلك يجب كبح جماحها ، فالموت مثلًا ماهو الّا نص لم تتم قراءته بعد في سيناريو الحياة، وأن الدور -وإن كانت حقيقة مزعجة- علينا كلنا، فالأمر يشبه أن تقبل ابنك ليلًا قبل نومه وتودعه وأنت تتخيل شكل الحياة صباحًا بدونه بحسب ابيكتس وهو فيلسوف رواقي .
قد تظن أن الأمر قمع للمشاعر .. لكن على العكس بحسب وجهة نظرهم، فبدلًا من خداع النفس وتزييف الواقع بمخدرّات مؤقتة لحظية، كل ما يتطلبه الأمر هو مواجهة الحزن نفسه، مواجهة حقيقة الموت والفقد، مواجهة الهزيمة ومواجهة ضياع الأحلام والرغبات بكل تجرد وشجاعة .
فإن لم تكن بخير ، فأنت لست بخير فعلًا ولا داعي لمحاولة اقناع نفسك ومن حولك أنك بخير، وكل مصائب الإنسان تجب مواجهتها .
وقد تسأل : لماذا نعود لدوامة الحزن من أجل تجاهلها ؟
يجيبك الرواقيين بأنه هذا أول خطوة للسمو على النفس ، فما هي الفلسفة الّا تقديم اجابات على أسئلة مثل : لماذا نعيش ، وكيف نسعد .
والتسامي يكون بالسمو فوق الحزن والمشاعر الهدّامة التي تم ذكرها فوق ، وأن يكون الإنسان متزن في تفاعلاته مع أحداث حياته ومستعدًا لما هو قادم ، لأن كل شيء في هذا الكون يمضي نحو غاية ، وكذلك يجب على الإنسان المضي لأنه من الكون وفيه .
المأساة للجميع : أيام الناصر الـ14 :
قد يكون الحزن ماهو الّا ترجمة بشرية رديئة لعدة مفاهيم خُلقنا وفُطرنا عليها مثل غريزة البقاء والشعور بالخطر الدائم والسعي نحو البقاء .. وأننا بقصد أو بدون قصد قمنا بـ"أنسنة" تلك الغرائز وتلك الرغبات واضفينا عليها جانبًا وجدانيًا لا يقل شاعرية وأسى .
لا تستثني لحضاتنا السيئة احدًا على وجه هذه البسيطة، فالحزن مقسوم للجميع وتمشي قوانينه على الكل، فالفقير والمسكين والسلطان والملك سيقتسمون كعكة الحزن من غير حول ولا قوّة، فهنا عبدالرحمن الناصر الخليفة الثامن لبني أمية في الأندلس قد عاش حياة رغد ونعيم، وقد انتصر في جميع معاركه وحقق انتصارات عسكرية وسياسية وادارية جعلته من صفوة قادة عصره ، واستأثر بالحكم لوحده بدون قلائل كثيرة تعكر صفو حكمه .
وبعد أن حكم 50 عامًا، مات و وجدوا ورقة كتب فيها بخط يده :
"أيام السرور التي صفت لي دون تكدير في مدة سلطاني، يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا"
ابهرتني
ردحذفاهلًا بالصديق الشغوف 💙
حذف