إعلمي يا مريم، أن هذا ما تجهلينه .
تجد مريم على طاولة مستديرة بالمنتصف مجلة فتفتحها لتقرأ مقالات وتشاهد صور باللونين نفسهم أيضًا، وتقرر من باب التغيير أن تشاهد تلفازها، لترى فيلمًا وثائقيًا عن غابات اندونيسيا المطرية المكسوة بلونين فقط يعرفهما القارئ ومريم !
عاشت مريم كل حياتها كلها في الغرفة منذ أن وُلدت، لاحقًا وفي مختبر صغير مُلحق بالغرفة سنحت الفرصة لمريم أن تتعلم كل شيءٍ عن بقيّة الألوان، مثل أطوالها الموجية وتردداتها وشدة إضاءتها أو عكسها للضوء .. كل شيء عن الألوان عرفته مريم ! وبعبارة أُخرى أكثر دقّة .. مريم هي أفضل شخص في هذا الكوكب يمكن أن يشرح لك عن الألوان كلها .
وفي صبيحة يوم من الأيام قررت مريم أن تُغادر أخيرًا عالمها الصغير إلى عالمٍ أكبر، قررت أن تغادر الغرفة إلى الأبد لكن قبل أن تُغادر سبقتها وكتبت سطور هذه التدوينة .. وقررت أن أسأل : هل يُمكن لمريم أن تعرف حقًا الألوان؟ بلا سابق مصادفة ولا تجربة؟ وهل يمكن لها أن تحدد البرتقالي من الأحمر وأن تفرق بين الداكن والفاتح؟
تجربة مريم : آن للعلم أن يمد قدميه :
ما قرأته بالأعلى هو تبسيط لتجربة ذهنية بسيطة بعنوان what doesn’t mary know قام بها العالم فرانك جاكسون في عام 1986 يُثبت فيها قصور المنهج العلمي، وأنه لا يمكن للعلم تحديد كل شي وفهمه ، ولا يمكن دائمًا للعلم تقديم تفسير لكل شي .. لأن ببساطة لا يمكن اخضاع كل شي للقياس في المختبر .
إجابة مريم قد لا تتفوق على إجابة طفل في الثالثة من عمره، لأن مريم ورغم كل ما تعلمته عن الألوان بطريقة منهجية علمية رصينة، إلّا إنّها افتقدت شيئًا فوق المادة ويتجاوز قوانينها، تعجز المختبرات عن رصده وإخضاعه للقياس والإختبار وطرح الفرضيات وإجراء التجارب عليه، افتقدت مريم الشعور الإنساني .
منذ أن وعى الإنسان وفكّر في وجوده، وهو لم يتوقف عن طرح الأسئلة ومحاولة تفسير كل شيءٍ يستفز فضوله، فأسئلة على نغمة "كيف جئنا ولماذا وُجدنا وماذا بعد وجودنا وماذا قبله، وكيف نشعر وهل يمكن لنا أن نعرف الوعي والوجود نفسه" كانت تشغل بال البشر على اختلاف مشاربهم، فتجد الفيلسوف يبحث عن غائية لوجوده وتجد العالم الرياضي يحاول طرح معادلة تفسّر علّتنا، ولعل العلم التجريبي قد تصدر المشهد وكان فرس الرهان في سباق الأسئلة، لكنّه يعجز عن تقديم إجابة كاملة دائمًا، حتى على أبسط سؤال .. لماذا وُجدنا ؟
معركة الأسئلة : عجز العلم عن منح الموضوعية :
ما رأيك بالسرقة؟ ستقول حتمًا أنّها فعل مجرم يرفضه المنطق السوي، ماذا عن القتل؟ الإغتصاب؟ الظلم؟ كلها أفعال مجرمة حتى في دستور الشر لو وجد، لكن هل يمكن للعلم أن يجرم الأفعال بشكل موضوعي؟ بمعنى آخر .. هل يمكن للمنهج العلمي بكل أدواته أن يخبرنا لماذا صفات مثل النرجسية والأنانية وحب السلطة هي صفات خاطئة بذاتها؟
للأسف أنّه لا يستطيع، كل ما يمكن للعلم أن يخبرنا عنها هو أنها صفات غرائزية وتصرفات طبيعية جدًا في سبيل بقاء الفرد .. عجز العلم عن إضفاء القيمة على كل شيء لا يعد قصورًا فيه بذاته، بل لأن هذا دور من نصيب بطل آخر، وللمنهج العلمي نص آخر عليه أن يلعبه !
منذ أن ظهرت المذاهب الماديّة، والمنهج العلمي قد أصبح رأس حربة في ما يشبه حرب التفاسير العظمى، كان مطلوب من العلم تقديم تفسير لكل شيء، وكل معضلة فكرية أو فلسفية أشكل علينا حلّها سنحيلها للعلم بأدواته الحسيّة المادية الخالية من الحياة، لتعطينا إجابات عن الحياة !
إذا نظرت في السماء وتحديدًا إلى الجنوب جهة ما يسمى "كوكبة المرقب" ، سترى بوضوح نجمين ساطعين يقع خلفها أقرب ثقب أسود للأرض ولكن لن تتمكن من رؤيته، خلف هذين النجمين وعند سطح الثقب المسمى بأفق الحدث Event horizon، وبعد تجاوزه للداخل يوجد ما يسمى بالمفردة singularity .. عند هذه المفردة تتعطل جميع قوانينا العلمية وجميع ما بنينا به المنهج العلمي الرصين -أو الذي ظنناه رصين- وسيقف العلم بجانبك عاجزًا عن تقديم أجوبة لما يحدث داخل الثقب الأسود، مع أنّه من المفترض أنه يملك إجابة لكل شيء .
سيتمدد أي جسم يدخل داخل الثقب حتى يموت لكن ما سيحدث بعده مربك ومحيّر لدرجة أنّه تسبب بمعضلة !
معضلة المعلومات : صداع العلم المزمن :
تخيّل، لأن حظّك سيئ سافرت عن طريق الخطأ لثقب أسود وهذا الثقب رفض أن يسمح لضيوفه بالمرور، فتم سحبك لداخله .. ما الذي سيحدث لك؟ هنا تتصادم أهم نظريتين علميتين نفسّر بها الكون والحياة من حولنا .. نسبية آينشتاين وميكانيكا الكم .
النظرية النسبية تُعنى بالأجرام الكبيرة مثل الكواكب، وتفسر لنا الزمان والمكان، أما ميكانيكا الكم -التي أجد صعوبة حتّى في تقديم تفسير مبسط لتفسيرها المبسط الذي قرأته من شخص تعلمه بشكل مبسط للأسف- فهي تفسر لنا العالم الكمومي، الذرّات والأشياء الدقيقة جدًا جدًا، تفسير النسبية يقول أن الجسم بعد دخوله لأفق الحدث سيعجز عن الهروب من جاذبيته وسيختفي لاحقًا ويفنى ومن ثم تختفي معلوماته للأبد كأنّه لم يكُن .
أما ميكانيكا الكم فهي تتفق على مصيرك المروع مع النسبية، ولكن تقول على لسان ستيفن هوكينق أنك ستعود لاحقًا للكون، وأن معلوماتك بطريقة أو بأخرى ستعود للظهور في الكون ولو على شكل إشعاع .
صحيح أن المعضلة سببها محاولة العلم تقديم أفضل إجابة، وصحيح أن الإجابات في تطور مستمر وتحسن وتصحيح، وأن بالخبرات المعرفية المتراكمة وبالمراجعة الدائمة لكل ما نعرفه ازدهرنا وتطورنا، لكن المعضلة هذه وغيرها من صراعات العلم وتناقضاته تذكرنا أن نستمع دائمًا للصوت الضعيف القادم من العلم والذي قد يغطي عليه نشاز يسببه غرورنا وظنّنا أنّنا نملك مفاتيح فهم كل شيء، صوت العلم يذكرنا دائمًا بأنه ناقص وعاجز عن تقديم أجوبة لكل شيء، فلا يمكن له تقدير كمية الألم مثلًا أو حتى رؤيته ولا تفسيره لثنائية العقل والدماغ .. ولا بإمكانه الإشارة لمركز تواجد الوعي، ولا بحثه عن تفسيرات جديدة أكثر وضوحًا وتحديدًا لأشياء مثل الحب والكره الذي يفسرها العلم على أنها مجرد عمليات كيميائية لا أكثر ولا أقل .
يعتقد العلم بعدم وجود الروح، وكل ما يمكن تقديمه لتفسير الحياة هو أن أجسامنا مجرّد ذرات تؤدي وظيفة بلا غاية وفي سبيل البقاء والتواجد فقط .. لكن الصخرة أيضًا مكونه من ذرّات، لا يمكن للعلم أن يخبرك لما لا تبتسم الصخرة لك، أو يبكي كيس البلاستيك المكّون من ذرات إذا قررت الإستغناء عنهُ ورميه، لأن أسئلة من ذلك النوع تتطلب للإجابةِ عنها منهجًا يؤمن بالغاية الأعظم والتصميم الأذكى ، يؤمن بأن ليس كل شيء مادة وذرة فقط بل شيء أعقد وأكبر .. شيءٌ غاب عن مختبر مريم، لكنّه في كل شيءٍ حولها موجود .
"أعتقد أن العنصر الإيماني في طبيعته يجب أن يكون معروفًا وراسخًا إذا تكاتفت كل قوى نفس الإنسان في توازن وتناسق تام، وفي الحقيقة ليس مِن الصدفة أن أعظم المفكرين في كل العصور كانوا يملكون نفوسًا ذات إيمان عميق"
- ماكس بلانك، الفائز بنوبل ومصمم نظرية الكم .
دايماً الطرح بسيط وسهل وممتع تسلم يا اطلس الحرف ♥️
ردحذف