شرٌ للضُعفاء والمساكين .
بعد رحلة طويلة جدًا من أقصى الكرة الأرضية، وبعد وصولها للقدس سارعت خطاها لقاعة المحكمة وحرصت "حنّة" على الجلوس في الصفوف الأمامية حتى ترى المشهد بشكل واضح، رغم أنها ستشهد محاكمة سجين عاجز وكسير، الّا أنها كانت مرعوبة وقلقة، فبعد لحظات معدودة ستكون في حضرة الشر المستطير، تصورت حنّة رجلًا بملامح حادة، خشم معقوف ونظرات تكاد تمتص الحياة من كل شيءٍ تقع عليه، ابتسامة صفراء لا مبالية وساخرة ..
لكن ما حدث كان صادم فعلًا وفوق توقعات المسكينة، رأت موظفًا بليدًا كأنه لا يعرف ما الذي أتى به للمحكمة، بلا جاذبية وعلى عكس ما تصورته، كان ممل، بل كان شريرًا تافهًا على حد وصفها !
آيخمان : رجل الرايخ الثالث الذي علم حنّة آرنت كل شيء :
مع تصاعد وتعاظم حدة الخطاب النازي العنصري تجاه بقية الأعراق وتحديدًا تجاه اليهود، ومع موجة احتقان شعبي غاضبة تجاههم، اقترح رئيس جهاز البوليس السري "الجيستابو" آدولف آيخمان على زعيم الأمة هتلر خطة لعلاج صداع اليهود المزمن، أسماها بـ الحل الأخير، وهي تقتضي بجمع وترحيل اليهود لمخيمات اعتقال ضخمة ثم تصفيتهم لاحقًا، مثل مخيم أوشفيتز الشهير، والتي عرفت لاحقًا بمعسكرات المحرقة النازية -الهولوكوست- ومات فيها ملايين اليهود .
تم القبض على آيخمان بعدها بسنوات في الأرجنتين، وتم اقتياده لفلسطين المحتلة لمحاكمته لاحقًا، حنّة آرنت هي فيلسوفة يهودية وكاتبة سياسية شهيرة، كانت تتبنى مفهوم الشر الجذري لكانت وهو مفهوم يقوم على مبدأ أن الشر كامن ومتأصل عميقًا داخل الإنسان، مثل كيان آخر منفصل يقود صاحبه لاحقًا للقيام بأعمال شريرة، أي أن آرنت ترا أن الشر خالص ومتأصل مثلها مثل كانت، وهم بذلك يقدمون حلًا للشر و وجوده .
كل هذا كان قبل أن تشهد حنّة محاكمة المسؤول النازي، الذي قلب مفاهيمها رأسها على عقب إلى الأبد، واستلهمت حنّة من شخصيته مفهومًا جديدًا سيصبح لاحقًا مرتبطًا بها، مفهوم تفاهة الشر ! وهو حل لمعضلة وقعت فيها حنّة شر وقعة .
فآرنت كانت لديها تصورات مسبقة عن النمط الذي يجب على كل شرير الظهور به، لكن آيخمان كان شخصًا عاديًا جدًا بل أنّه وعند ما كان يشاهد شريط احدى جلسات محاكمته مع المدعي العام الإسرائيلي توتر وغضب لأنهم لم يحضروا له بدلة زرقاء ليلبسها مثل ما وعدوه ! وعاد ليخبر المدعي العام بخيبة آمله تجاهه لأنه لم يفي بوعده!وفي وسط هذا التناقض الرهيب بين تاريخ إجرامي مروع جعله في مقدمة صفوف مجرمي التاريخ، وبين واقع بائس لكن طبيعي، اخترعت حنّة مفهوم الشر التافه .
بزعم الفيلسوفة أن آيخمان كان مجرد موظف يطيع الأوامر والتوجيهات وينفذها على أدق وجه وأكمل صورة رغبةً في نيل حظوة عند رؤساءه، بل إنّه وبعد سنين من الطاعة العمياء المطلقة فقد آدولف مع الوقت قدرته على التفكير الناقد وفقد قدرته على اتخاذ القرارات بشكل منطقي ومراجعتها، أصبح مجرد زناد في بندقية يضغط عليها الزعيم متى ما أراد، ليدوي عاليًا صوت آيخمان المسكين .
لذا يمكننا القول أن حنة ترى أن الشر لا يحتاج لدوافع شيطانية ولا لضمير ميت، الشر فعل إنساني خالص تمامًا .
آيخمان كان إنسان طبيعي وما أجبره على فعل ما فعل أمرين :
1- الإخلاص الوظيفي "طاعة عمياء" .
2- فقدانه للقدرة على التفكير "مبدأ الصح والخطأ" .
تقديم آيخمان على أنه مجرد ضحية تمت برمجتها مسبقًا لم يعجب اليهود، وتعرضت لإنتقادات شديدة من أكاديميين وشخصيات يهودية كبيرة، لكن آرنت ظلّت وفية لتفسيرها ولما رأته في آيخمان، فهي لم ترى سوى انسان ينفذ أمرًا لأنه أمر، لا لأنه شر .
رأيي أن الشر ليس "جذرياً"، إنّه فقط متطرف، ولا يملك أي عمق أو بعد شيطاني. إنه (يتحدى الفكر) لأن الفكر يحاول بلوغ الأعماق، والاقتراب من الجذور، وعندما يهتم الفكر بالشر، فإنه يشعر بالإحباط، لأنه لايجد أي شيء، وهنا تكمن تفاهة الشر"
اقتباس لحنّة .
عصا الإنسان الضعيف : كيف شكّك نيتشه في مفهوم الشر :
شكك فريدريك نيتشه في مفهوم الشر بالكامل، بل ذهب بعيدًا وقال أن مصطلح الشر قد تم اختراعه من قبل الضعفاء والمضطهدين لمواجهة جلّاديهم، وعلى وزن -فليسعد القولُ إنْ لم يُسعد الحالُ- فإن الشر والظلم وغيرها من المصطلحات التي تصف أفعالًا معينة، يعتقد نيتشه أنّها مصطلحات طوارئ تصلح للمساكين ولقليلي الحيلة والعاجزين،وللفقراء لتبرير الظلم الإجتماعي الواقع عليهم، و للصمود ضد غيرهم .
يتبع نيتشه مذهب الشكوكية Evil skepticism عندما يتعلق الأمر بالخير والشر والأخلاق، ويعتقد منظرّي هذا المذهب من الشكوكيين أن مصطلحات مثل الخير والشر يجي تجاوزها وإلغاءها لأن لا تصف بدقة الوضع، والحل هو استبدالها عندما نريد وصف الشر أو وصف وتعيين فعل شرير بكلمات مثل -خيار سيئ- أو -فعل خاطئ- Badness and wrongdoing .
لأن الخير والشر نسبيين، ومصطلحاتهم فضفاضة تحتمل أي معنى وأي تفسير لذا وجب جعل الأمر -حسب تفسيري المتواضع- على شكل درجات وسلّم يتأرجح ما بين خيار جيد جدًا إلى خيار سيئ جدًا فقط بدون معيار أخلاقي، وأين تذهب الأخلاق اذًا؟ ستسافر مع اليهود لمعسكر أوشفيتز .
من أين يأتي الشر إن وُجد اذًا ؟
يعتقد الكاتب المصري عبدالقادر المازني في مقالة له بعنوان "الإنسان كائن غير شريف" أن الصفات الحميدة مثل مساعدة الأخرين وحسن الخلق والجوار ونصرة المظلوم ماهي الّا صفات طارئة، وضيوف جدد، لأن الإنسان بأصله كائن شرير يتبع غريزته ويهمّه بقاء نوعه وفرده .
في ثلاثية باتمان لكريستوفر نولان، وضع نولان فلسفة عظيمة جدًا لمفهوم الخير والشر، في مشهد استجواب الجوكر -ممثل الشر- من قبل باتمان -ممثل الخير- فضح الجوكر على لسان الراحل هيث ليدجر سكّان غوثام وقال أن أخلاقياتهم ومبادئهم الطيبة مجرد نكتة، ستنهار مع أقرب اشارة للخطر، وسيتخلون عنها .. ومن الشاشة الكبيرة للشاشة الصغيرة، وصف مايكل سي هول مؤدي شخصية السفاح ديكستر نداءات الشر على أنها مثل الراكب المظلم Dark passenger، راكب يقوده لإرتكاب الشنائع والجرائم متى ما اراد، مع اصراره على أنه في داخله طيب وبريئ ونقي، لعل آدولف آيخمان كان ليشعر بالتعاطف أكثر .
سواء كنت تؤمن أن الشر أصل في الإنسان، أو أن الشر غريزة قد أُسيئ فهمها وترجمتها، وسواء كان بإستطاعتك إيجاد تفسير وتبرير لكل شر محضٍ قد فعلته، فالأكيد أن الشر يتواجد دائمًا في غياب الخير، في الزوايا المعتمة التي لا تصلها شمس الأخلاق الحميدة، ومن يدري، لعل الشر فعلًا هو غياب الخير فقط .. لا وجود له ولا كينونة .
في النهاية، عارض المدعي العام اليهودي غابرييل باخ -صاحب قصة البدلة الزرقاء- عقوبة الإعدام على آيخمان وأبدى تحفظّاته، ربما رأى غابرييل فعلًا ما قصدته آرنت بالشر التافه في آيخمان .
- حماكم الله من كل شر، آطلس .
ابدعت في السرد لدرجة وددت أن لاينتهي!
ردحذف