لماذا لا يرقص الإسبان السالسا؟


في مطالعتك لعادات وتقاليد الشعوب في العالم، وتحديدًا الشعوب اللاتينية، ستجد تأثيرًا واضحًا للثقافة الإسبانية كمثال في لغتهم وفنونهم وموسيقاهم وحتى رقصاتهم الشعبية، ومثلها البرتغالية والإنجليزية وغيرها من الثقافات التي سجلت حضورها بشكل عنيف مع قدوم المستعمرين الأوروبيين للقارة اللاتينية.

لكن تبادر في ذهني سؤال، لماذا بدلًا من أن يتحدث شعب الأرجنتين البالغ عددهم 50 مليون نسمة الإسبانية، لما لم يفرضوا ثقافتهم على الإسبان ويستعمرونهم، حتى يرقص الإسبان السالسا ! ولما لم ترسل الفلبين قبطان بحري يستقصي شواطئ البرتغال تمهيدًا لإحتلالها مثل ما فعلت الأخيرة وأرسلت فيرناندو ماجلان؟ 

وقياسًا على ذلك يمكن أن نبحث خلف سبب اختلاف موازين القوى وتمايز وتباين الشعوب، فلما الأوروبي الأبيض بدأ عصر الإستكشاف وبعده عصر الإستعمار في القرنين الثامن والتاسع عشر قبل غيره، وهل هناك أسباب فطرية/ بيولوجية خلف هذا التفوق الواضح ؟ 


اله أبيض على ظهر ملاك : بين بيتزارو واتاهولبا :



في عام 1533 تجول القائد الإسباني فرانشيسكو بيتزارو على حدود امريكا الجنوبية بحثًا عن ممالك غنية صغيرة يمكن له ولسريّته الصغيرة جدًا الإستيلاء عليها من أجل ارسال الغنائم للتاج الإسباني، وفي أثناء توغّلهم أكثر داخل القارة وقفوا على حدود مدينة كاخامركا، والتي كانت لسوء حظهم -ولاحقًا لحسن حظهم- عاصمة أقوى وأغنى امبراطورية في العالم وقتها، الإنكا ! 

كان عدد جنود بيتزارو 180 رجلًا فقط، يقفون أمام جيش يبلغ تعداد جنوده 80 ألف رجل قد احتشدوا مبكرًا للقائهم وتمركزوا أمام مدينتهم، تفاوض في البداية بيتزارو مع الملك أتاهولبا وأخبره أنه مبعوث وأن مملكته الوثنية ستتبع للتاج الإسباني وسوف تغير ديانتها للمسيحية ، سخر الملك من مطالبهم وشروطهم وفي اليوم التالي كان الفريقين على موعد مع الحرب، لكن قبل أن تبدأ الحرب يجب أن تعرف ما لديهم من أوراق :

الإسبان يلبسون دروعًا حديدية وسيوف حادة مطروقة بالفولاذ ومدافع بارود صغيرة وبنادق نارية وقبل هذا كلّه، يركبون الأحصنة .

أصحاب الأرض لا يملكون شيئًا مما ذكر فوق، ولا حتى أي شيء يشابهه، مشاة على الأرض معهم مقاليع وسيوف صغيرة .

انتهت المعركة التي ستغير تاريخ أمريكا الجنوبية للأبد بإنتصار ساحق لبيتزارو ورجاله، وبتشتت الجيش الضخم والقبض على الملك وقتله ونهاية واحدة من أغنى وأقوى ممالك التاريخ، لكن كيف لـ180 رجل تائهين ومتعبين وبعيدين الاف الكيلومترات عن موطنهم أن يتفوقوا على جيش بأضعاف عددهم؟ الأسباب عديدة منها أن الإسبان كانوا يملكون البنادق والبارود اللذين كانا تكنولوجيا معقدة جدًا بالنسبة لشعب الإنكا، وكانوا على الأحصنة التي كان يرونها اللاتينيين المساكين لأول مرة بحياتهم فظنّوا أن الإسبان آلهة على ظهور ملائكة وهرب أكثرهم بينما سجد الباقين واستسلموا للإله المدرّع الذي يلبس الخوذة ويتكلم لغةً جديدة وغريبة على أسماعهم. 

لكن لماذا امتلك الإسبان هذه الأفضلية؟

 الإجابة ببساطة كانت أن الإسبان صحيح أنهم امتلكوا بنادق وأحصنة، لكنهم أيضًا قد استعدوا للمعركة قبل 11 ألف عام .  


البيولوجيا بريئة، الجغرافيا هي السبب :

كانت قد ظهرت تفسيرات عنصرية سابقة لتفسير تفوق الأوروبيين على باقي الشعوب، ولعل أبرز التفسيرات هي التي اقترنت مع ظهور الداروينية الإجتماعية، ونسبة التفوق لخصائص بيولوجية جينية يرثها الأوروبي من أجداده وتمكنه من بسط تفوّقه على غيره، وقبلها، تعطيه الحق لفعل ذلك .

عملًا بمبدأ الإنتخاب الطبيعي، ظن كثير من أحيائي وسياسيي أوروبا قبل مئات السنين أن الطبيعة تختار العنصر والجينات الأفضل لتبقى، وأن استعمار واحتلال دولهم لباقي الشعوب كان عملًا وتحقيقًا لهذا المبدأ، وأن هذا تشريع طبيعي لما يفعلونه من جرائم ونهب .. لكن القصة كانت مختلفة تمامًا والتفسير بعيد كل البعد عن ادعائاتهم العنصرية الممزوجة بجنون العظمة وحق التملك ، لكن الأمر أبسط من ذلك بكثير، لا تفوق بيولوجي ولا حق طبيعي، المبدأ فقط مبدأ توزيع الفرص .

قبل 11 ألف عام اكتشفت الزراعة في بلاد مابين النهرين، عرف الإنسان اخيرًا طريقة للتغذية غير جمع الثمار التي سقطت من فروع الأشجار وغير الصيد الذي كان يأخذ جل يومه فيه، الزراعة كانت ثورة وقفزة إلى الأمام، تخلص الإنسان أخيرًا من هم أن يموت جوعًا ومن أن ينافس الحيوانات المفترسة على الطرائد، والأهم من ذلك، أصبح أمام الإنسان وقت طويل ليفكر وينظم باقي أموره، والزراعة ستأتي بمحاصيل والمحاصيل ستضمن تغذية عدد كبير من البشر في وقت واحد إلى جانب الحيوانات التي يمكن استئناسها والعناية بها .

الأمر أشبه بخطوات درج، فأول عتباته ستكون الزراعة البسيطة بحقولها الصغيرة التي تتسبب بظهور تجمعّات بشرية حولها، هذه التجمعات البشرية ستكون مرغمة على تنظيم نفسها وتوزيع العمل، هنا اذًا يكون لدينا أول التنظيمات السياسية البدائية، تتطور هذه التجمعات البشرية بشكل طردي مع تطور تنظيماتها السياسية لنصل إلى أشكال معقدة من المجتمعات والأنظمة السياسية، التي ستقوم بالإستيلاء على مناطق وأماكن جديدة لزراعتها وستتوسع تلقائيًا، وستقوم بتدجين الحيوانات وصنع الات بسيطة لمساعدتها في أعمالها اليومية، وبعدها مبروك، وصلت إلى آخر الدرج الذي  تكون نهايته دولة، دولة منظمة بشكلها الحالي البشري، وكلها بسبب الزراعة .. والزراعة نفسها كانت قد ظهرت بشكل ضعيف وقدمت دعم قليل جدًا لمسيرة التطور في باقي مناطق العالم.

التنظيمات السياسية تسمح بظهور الإختراعات، وتعطي مجالًا و وقت وحماية للشعوب أن تفكر وتخترع وتكتشف، فرأينا اختراعات مصيرية للبشر مثل الكتابة والعجلة ورأينا تطور المعتقدات وطرق التفكير، ورأينا اكتشافهم لفوائد التدجين وتدجينهم لحيوانات مهمة مثل الأحصنة والبقر والكلاب وغيرها، وقد اختصت منطقة مابين النهرين واسيا الصغرى والوسطى وجنوب روسيا ومصر بهذه الإكتشافات المهمة، والتي كانت تقف قريبًا جدًا أوروبا لتتلقفها وتستخدمها، ولتنطلق الجحافل الأوروبية الغازية في شتى بقاع الأرض، وقد ساعدت الظروف المناخية والتضاريس الطبيعية على سهولة انتقال الإختراعات والمحاصيل والحيوانات من وإلى اسيا وافريقيا وأوروبا، ولنفس السبب كان صعبًا على القارتين الأمريكيتيين الحصول على هذه الإختراعات وتطويرها وحتى السماع بها أصلًا ! فالمسطحات البحرية الواسعة مثل المحيطات والتضاريس الصعبة مثل سلاسل الجبال العالية شكلت حاجز طبيعي ضد قدوم الاختراعات والثقافات المجاورة والتأثر بها، بينما أوروبا كانت جاهزة جدًا وفي مكان وزمان يسمح لها بتلقي كل ذلك وتطويره واستخدامه .


الكتابة كمثال، كانت اختراع حاسم على السبيل العسكري لأنها ساعدت على تنظيم الجيوش وسرعة نقل الرسائل والأوامر ما بين قادة الجيش والحكومات، وكانت حاسمة في تسجيل المحاصيل وتأريخ وقت هطول الأمطار وجدولة مواسم الزراعة، هذه الفوائد وان بدت بدائية فإنها كانت مؤثرة أشد التأثير و وضعت بصمتها على تطور الشعوب لمدة الاف السنين . 


لنصل للنتيجة الأخيرة في عام 1533، عندما وصل بيتزارو بحصانه الأبيض الذي دجّنه أسلافه قبل 6000 سنة من تاريخ الوصول، كان الحصان يطأ القارة لأول مرة، وتراه شعوب القارة وتتبيّن شكله، ولو أن الإنكا قد تعلموا خدعة البذرِ والحصد بدلًا من أكل الثمرة كاملة في وقت أبكر، ولو أنهم امتلكوا ثروة وتنوع حيواني بدلًا من حيوان اللاما الذي كان الحيوان الوحيد الذي استطاعوا تدجينه،  ولو أن تضاريس أمريكا اللاتينية كانت أفسح واكثر قابلية للمرور لاستطاعت شعوبها تطوير مجتمعات وتبادل اختراعات واكتشافات مهمة تساهم في تطورهم، ومن يدري، لأصبح الإسبان يرقصون السالسا الأرجنتينية بدلًا من أن يستخدم الأرجنتنيين الغيتار الأوروبي الذي أتى مع المستعمرين  في تلحين السالسا نفسها !  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من منكم يعرف أحدًا، لمس الأمم المتحدة؟

ما الفرق بين ابن الرومي، والطيور الإستوائية؟

ليلة القبض على الذوق الرفيع.