ما أضيق العيش، لولا فسحةُ القِصصِ
كلنا نعلم عن سندريلا، بل بظني أن حتى البشر في غابات الأمازون، وفي وسط الربع الخالي النائي، وسكان الإسكيمو .. يحفظون قصة الفتاة الفقيرة التي تخدم زوجة أبيها الشريرة وابنتيها، التي عرفنا كيف كان مستحيلًا عليها الذهاب لحفلة اختيار زوجة للأمير لولا تدخل الساحرة الطيبة التي ساعدتها ولكن اشترطت عليها العودة قبل منتصف الليل، ثم باقي التحول الشهير في الأحداث عن فقدانها لحذائها حتى انتهى بها المطاف بالزواج من الأمير والعيش في سعادة أبدية،
لكن مالا نعرفه أن سندريلا في النسخة الصينية كانت قد أخذت المساعدة من عظام سمكة سحرية لتلحق بإحتفال السنة الجديدة والذي يعتبر احتفالًا معظمًا ومقدسًا هناك، بينما في اليونان -وهي أقدم نسخة وصلتنا عن قصتها- كانت سندريلا تسبح في نهر ولم تنتبه للعُقاب الذي سرق حذائها وأسقطه في حجر الملك الذي بحث عنها وتزوجها .. لقصة سندريلا 345 رواية مختلفة، يعتقد العلماء اليوم أنها تجاوزت الألف بكثير .
فتاة مظلومة، تسلط وقهر ويُتم، ثم انفراجة في الأحداث ونهاية سعيدة مصحوبة غالبًا بنهاية مريرة للأشرار، مثل نهاية زوجة أبيها في النسخة الصينية التي انتهى بها المطاف مدفونة تحت انهيار صخور في كهف جبلي، ولا أدري كيف انتهى المطاف بها هناك! لكن هذا التشابه السردي وهذا التطابق في تسلسل الأحداث، يطرح أسئلة مهمة منها :
هل يخترع البشر القصص الخرافية بنفس الطريقة؟ وهل ما نحكيه للأطفال قبل نومهم يعنيهم أم يعنينا؟
اختلاف الخرافة عن الأسطورة : ما الفرق بين زيوس وسندباد ؟ :
الأسطورة هي قصة خارقة للعادة، بأحداث غير مألوفة وأبطال غير تقليديين أبدًا، ولا يمكن أبدًا تفسيرها بمنطقية أو احالتها لدليل، والهدف من هذا الحشد ومن هذه التوليفة هي جعلها راسخة في الأذهان، يبدو التعريف مطابقًا لبعض ما نعرفه عن القصص الخرافية، أليس كذلك؟ نعم ولا بنفس الوقت .. الأساطير تتميز بثلاث نقاط رئيسية أولها أنها تمثل ترجمة لحال المجتمع والناس وقتها وتعكس حاجة لتعزيز قيمة أو فكرة، كمثال على ذلك أساطير نشأة الكون .. فعندما استقرّ البشر وعرفوا معنى أن ترتبط بالأرض التي تقف عليها أخذوا يفكرون ويفكرون في كيفية نشوءها، ولما رأوا أن عكس الأرض الصلبة المستقرة هو الماء المضطرب بأمواجه، قرر البابليين في العراق والأوغاريتيين في سوريا أن الكون نتاج عدم مليئ بماء بدئي -أولي- ثم أصبح هذا الماء في اضطراب حتى تسلسلت الأحداث لظهور الغبار الذي كون ترابًا صلبًا، ونرى هذه القصة تتكرر في أغلب اساطير التكوين، لذلك فالأسطورة تعزز واقعًا معاشًا، أما القصة الخرافية فلا ترمز في أحيان كثيرة لشيء .
ثاني الاختلافات في كون أن الأسطورة تستند عادةً لقصة حقيقية، قصة رويت على مدار أجيال وأجيال وكان لكل جيل بصمة في "أسطرة" القصة -وهذا مصطلح جديد أنسبه لنفسي ولا أنصح بتداوله- ولكل زمان اضافاته الفوق منطقية والخيالية للقصة، حتى تنشأ الأسطورة بشكلها الشهير، ولنا في قصة بناء مدينة روما وولادة الإمبراطورية الرومانية كمثال، وكيف أن روموس ورومولوس التوأم ارضعتهم ذئبة مع صغارها حتى كبروا، رغم أن الدلائل التاريخية تشير لكونها نشأت على يد قبائل كانت تنشط في تلك المنطقة .. لعل زعماءها كانوا شقيقين استطاعوا بناء المدينة المستحيلة في أصعب الظروف .
وثالث اختلاف جوهري هو أن الأسطورة دائمًا تشير لمثل عليا وقيم نبيلة، مثل قصص الأبطال الخارقين مثل بروميثيوس الذي سرق النار ليعطيها البشر وعوقب على ذلك، وآخيل بطل طروادة العبقري، وجلجامش من بحث عن الخلود ثم استوعب في أن سر الخلود يكمن في ارثك وما تتركه من بطولات وقصص لمن بعدك، والسمؤال في تراثنا العربي الذي ضحى بحياته حفظًا لعهدٍ قطعه على نفسه من اجل الملك، بينما القصص الخرافية غالبًا وفي الظروف الطبيعية لا تنادي بشيء مثالي ولا تعرض مضمون واضح أو هدف، للتسلية والتندر والتعجب، اضافةً لكون غالبية القصص التي نعتقد أنها موجهة للأطفال في يومنا هذا، كانت قصص دموية وبشعة قبل مئات السنين .
كيف اخترعنا القصة قبل الأدب :
القصص الخيالية التي تكاد توجد في كل ثقافة انسانية تشبه اللغات كثيرًا، لها جذور ويمكن تتبع أصلها لسلف مشترك ومصدر أصيل واحد، سندريلا مثلًا كانت "سندريللون" كما سماها مخترع الشخصية الحالية تشارلز بيرو في عام 1700، قبل ذلك بقليل وفي ايطاليا نشرت رواية لقصة سندريلا، ولو عدنا بالتاريخ ألف سنة في الصين لوجدنا قصة Ye Xian، وقبلهم كلهم في مصر الفرعونية تحديدًا كانت رودوبيس هي أول سندريلا عرفها البشر .
رغم اختلاف الروايات، لكن القصص كلها تتشابه في السرد والتحولات بالحدث نفسه، في القصة يكون البطل في البداية قبل أن يظهر الشرير، يحدث صراع بينهم ينتهي بهزيمة أولى لبطلنا الطيب، تبدأ المعضلة التي يظهر لها حل -غالبًا سحري- مثل الساحرة الطيبة في سندريلا او الأمير في قصة سنوو وايت، يستجمع البطل او البطلة رباطة الجأش ويقرر المواجهة، تحدث المواجهة الأخيرة التي تنتهي بفوز البطل وهزيمة الشرير ثم النهاية السعيدة الأبدية .
القصص هي انعكاس للمجتمع البشري وأحلام أفراده واحتياجاتهم، أول قصة تم تتبع مصدرها كانت قصة الحداد والشيطان the Smith And The Devil، وهو حداد يرهن روحه للشيطان مقابل أن يملك قوى خارقه، كيف عكست القصة الحالة والحاجة في نفس الوقت؟ عليك أن تعرف ان تاريخ القصة يعود ل6000 عام وتحديدًا في العصر البرونزي، عصر الطرق والتشكيل على المعادن التي كانت اكتشافًا جوهريًا للبشرية لا يقل أهمية عن اختراع الكتابة واكتشاف الكهرباء، طموح الإنسان البسيط في ذلك الوقت كان لا يتجاوز امتلاكه لقدرات خارقه تمكنه من تشكيل وطرق البرونز والنحاس والحديد بشكل أسرع من أقرانه لإثبات تفوقه وفرض نفسه، ولكن القصة نفسها ألهمت ولا زالت تلهم العديد من صناع القصص والأفلام حتى يومنا هذا، واسأل نفسك كم فيلمًا او مسلسلًا شاهدته يملك نفس الحبكة؟
اخترعنا القصة قبل أن نعرف الأدب، قبل أن نفهم تراكيب العمل الروائي والحبكة وبناء الشخصيات، ولك ان تتخيل الحاجة التي دعت لأن تسبق القصة الأدب، ولأن تسبق البيضة الدجاجة وتسبق الطاولة الشجرة .
أول عمليين روائيين أدبيين في تاريخ البشر أتوا بعد هذه القصة بحوالي 2500 عام، وهم متون الأهرام الدينية وملحمة جلجامش في سومر .
معظم قصصنا اليوم تؤرّخ لتواريخ قديمة وبعيدة جدًا، لكنها استمرت بجوهرها على الأقل حتى يومنا هذا، لأنها تحكي شيئًا في النفس البشرية، تخاطب مطالبنا البسيطة وأحلامنا التي لا تقل سذاجةً عن حلم الحدّاد الذي رهن روحه مقابل فأس قوي ويد ثابتة -لم يطلب من الشيطان منحه ثروة لأن مفهوم الإكتناز والمال كان غائبًا عن خيال البشر وقتها- ولا تتجاوز حلم العثور على الشريك المناسب الذي ينتشلنا من الفقر وينقذنا من المجتمع الظالم .
ولعل القصص قد صمدت مقابل الأسطورة لأنها تتجاوز البعد المادي ولا تدين له بشيء، ولأنها شكلت أول عزاء للبشر في حياتهم، فلعل الحدّاد لم يمكن يملك فأسًا أصلًا، وانمّا قرر تسلية نفسه بإختراع لقاء وهمي ينتهي بتحقيق حلمه .. محققًا بذلك قول الطغرائي :
أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها
ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأملِ
تعليقات
إرسال تعليق