ماذا نعِي؟ لو كان ينفعُ ما نعي .

 

سنأتي لاحقًا على سبب اختيار الصورة، لكن قبل ذلك سأخبركم بقصة .

شاهدت قبل فترة وثائقي يحكي قصة فطر طفيلي عجيب اسمه كورديسيبس،. ينشط هذا الفطر في أقصى غابات الأمازون المطيرة، يهاجم ويصيب النمل فقط لكن بطريقة غريبة جدًا، الكورديسيبس لا يتغذى على النمل فقط .. بل يستخدمه ! 

‏تحكم الفطر بالنمل واستخدامه لجسم المضيف يطرح اسئلة كثيرة، اهمها حول ⁦‪الوعي‬⁩، هل يعي الفطر مثلنا ما يفعل؟ ام ان ما نعرفه عن الوعي قاصر ومحدود بتجربتنا الإنسانية؟ هل الطفيليات -أمثال هذا الفطر- تفكر مثلنا وتستنتج قراراتها مثلًا بكامل تجرد وحرية؟ .


مسرحُ دمىً كل من فيه أعمى : 


الكورديسيبس فطر يهاجم عضلات النملة ويشل جهازها العضلي بالكامل ويقطع صلة العضلات بالدماغ لكن ليس تمامًا .

الكورديسيبس يعلم أنه يحتاج لحركة النملة، لذلك وبميكانيزم حيوي ذكي وبدقة عظيمة تجاري دقة أعظم جراحي الدماغ والأعصاب يقوم بالحفاظ على روابط عصبية بسيطة بين الدماغ والعضلات والأطراف، متيحًا لنفسه السيطرة على الجهاز الحركي للمخلوق المستضيف، وتبقى النملة حية وباستطاعتها ان تغذي عضلاتها .. ومن هنا جاءت تسمية النمل الزومبي على كل من اصيب بالفطر .

‏الغريب فعلًا هو ما يلي عملية الاختراق، بعد ان ينمو الفطر داخل النملة ويحكم سيطرته يجبرها على التحرك والبحث عن ساق نبتة مناسب له ليتكاثر وينشر ابواغه، 

تخيل معي أن طفيلي لا يعي ولا يعقل -وهذا حسب تعريفنا للوعي وللعقلانية- يبحث عن ساق نبتة بطول 25 سم بالضبط، وهو الطول المناسب بدرجة رطوبة وحرارة مناسبة لكي يستطيع الخروج ونشر ابواغه بالمناخ المناسب مع حساب سرعة الرياح المناسبة حتى يمكنها السقوط على جحر للنمل، وتكرار ما حدث من جديد .


‏السؤال هنا كيف استطاع الفطر التحكم بوعي النملة وارادتها؟

‏كيف عرف البيئة المحيطة وحدد الطقس والتضاريس المناسبة بالضبط له لكي يخرج؟

وقبل ان انتقل من الفطر الى الإنسان، وجب أن اختم بمعلومة ان العلماء يعتقدون أن النملة لا تعلم بهذا الهجوم كله الا قبل موتها بلحظات بسيطة جدًا .


عن سؤال الـ لماذا نحن هُنا : 

لعل فطر الكورديسيبس يقرأ هذه السطور ويتعجب في ذهول من غطرستنا في تعريف الوعي، وكأننا قد احطناه علمًا وفهمًا، لذلك ومن باب الإنصاف وجبت مراجعة تعريف الوعي، وكيف حاولنا معه .

يعرف هايدغر "فيلسوف ألماني وجودي، نازي يعشق المتطرفين اليمينيين وعندما تولى ادارة جامعته رفض كل طلبات الإلتحاق التي تقدم بها طلاب يهود" لكن ماعلينا، نعود لتعريف هايدغر : 

يرى هايدغر أن الوجود هو استذكار الحقيقة الكبرى، أنك موجود .

‏وأن انشغالك بالأحداث اليومية وظروف حياتك هي تغطية زائفة للحقيقة، التي هي مرةً اخرى : انك موجود ! طالما انك مستيقظ غير نائم ، وطالما انك طبيعي لا مريض غيبوبة ولا انت مصاب بعائق يعيق ادراكك ووعيك لما حولك، فأنت موجود بذاتك وبوعيك .. طالما ان وجودك لم يسلب منك، والطريقة الوحيدة لسلبه هي عدم ادراكه .

هل تعريف هايدغر منيع؟ على ما يبدو ان هايدغر بتعريفهِ هذا يواجه طلبًا اصعب من طلب اليهودي الذي يريد الإلتحاق بجامعته، فلو عرفنا الوعي على أنّه حالة ادراك وفهم لمشاعر معينة ومختلفة، الا يعني هذا ان كل شي يتنفس على وجه البسيطة ويفهم ولو شيئًا يسيرًا مما يحيط به، يكون مخلوقًا واعيًا؟ 


معضلة الروبوت، أن يكون الوعي سلوكًا فقط : 

لو افترضنا ان الوعي هو ادراك وفهم، ولو أزلنا عنه صفة التفرد والتميز التي نظن انها تجعلنا متفردين، سنقط سقوطًا حرًا في معضلة الروبوت -التسمية من كيس كاتب السطور- وهي موقف تخيلي، لذلك فلنبدأ بالتخيل !

تخيل لو برمجنا روبوت على تلقي اوامر معينة وتفسيرها، يعني ان يكون مدرك تمامًا لما يعطى له وتكون عنده امكانية اتخاذ عدة قرارات مختلفة ويختار منها ما يناسب الموقف، مثله مثل الإنسان، هل سوف يصبح انسانًا؟ اذا كانت اجابتك لا، فكيف -وتذكر أن هايدغر يعرف الوعي على أنه ادراك- ان تُعطي وعيًا لمن لا روح له ! واذا اجابتك بنعم، فهذا مستحيل لأن الوعي مرتبط بحرية التصرف والإرادة، أليس كذلك؟ 

أرايت حجم التعقيد؟ لنفس السبب آمن باروخ سبينوزا الفيلسوف الهولندي ان ما يبعث بعد موت الانسان هو عقله المجرد فقط، اي ان الوجود الاصلي للكائن الحي هو عقله بدون جسمه المادي .
‏ما علاقة ذلك بموضوعنا؟ لأن سبينوزا سخر من مفهوم حرية الارادة، وشبه ارادة الإنسان بصخرة صماء ساقطة من السماء، تظن الصخرة أنها حرة في تحديد مسارها بينما هي اصلًا "متوجهة" .. فكيف اذًا نكون واعين ونحن لا نملك تصرفًا حرًا ولا ارادة، ام اننا واعين رغم اننا مسيرين؟ ما فرقنا عن الصخرة الصماء وقتها؟ 

ان اصابك الصداع فأنصحك بأن تحذو لودفيغ فيتنغشتاين -فيلسوف نمساوي يشبه هايدغر في فلسفته لا في نازيته- وتعتبر اسئلةً من نوع "كيف نعي ولماذا نحن هنا" هي خداع لغوي، وصيغة خاطئة وجب أن لا نفكر بها وننشغل عن السؤال الحقيقي : سبب الوجود .

أو ان تجرب ان تهرب بعيدًا مثل ما فعل صاحب اسوء اجابة على سؤالنا، ريتشارد دوكينز -فيلسوف بريطاني ليس نازيًا ولا يمينيًا ولا يشبه هايدغر، لكنه لا يجرم الإغتصاب ولا يؤمن بالمرجعية الأخلاقية وهذا اسوء- .

 يعتقد ريتشارد أن الإجابة غير ممكنة لأننا نتبع المنهج العلمي، والمنهج العلمي لا يمكنه الإجابة على هذه الأسئلة ، اذًا ما الحل؟ الحل بحسبه أن نفكر في كيفية وجودنا ونتغافل عن سببه وغايته .. لأننا لا نستطيع الإجابة، فلا ننشغل بأسئلةٍ عمّا قبل الوجود، وعن سبب وجوده وحصوله، بل ننشغل بكيفية بدأ الوجود عن طريق دراسة عمر الكون وما أعقبه، أي ان ننشغل باللحظة الراهنة .

تجاوز الوعي : كيف ارتجلنا الوجود بحسب راسل وكيف اننا منكوبين بحسب شوبنهاور : 

 بيرتراند راسل الفيسلوف والمؤرخ الفلسفي البريطاني -وهو واحد من ألمع العقول التي وجدت- يعتقد أن الإنسان كائن مرتجل، يرتجل وجوده وغائيته -وانا في السطور القادمة سأتلافى الحديث عن الوعي لحضور مصطلحات أشمل- أي أنه من لحظة وجوده ومن لحظة ادراكه للوجود تكون تصرفات وقرارات وارادة الإنسان رهينة ذلك الإرتجال .

الأمر أشبه بسجين قضى حياته في سجن انفرادي طول عمره ثم أطلق سراحه في العراء، سيركض ويصرخ ويفعل كل ما يثبت حريته، بينما يعتقد شوبنهاور أن العدم أصل كل شيء وأن الحياة ماهي إلّا شرٌ محض وأن الوجود نكبة طارئة .. أمّا الإرادة فهي إندفاع أعمى نحو هذه النكبة وهذا الشر، وهنا يتفق معه تلميذه نيتشه، في أن وجودنا وتكاثرنا اجيال تلو اجيال هو الشر بعينه، فأنت تولد ومعك صك حكم جاهز بالموت، ‏الوجود كلّه ماهو الا تراجيديا مملة وبائسة، لا فائدة من البحث عن معنى ولا فائدة من العيش وفق هدف وطموح، الوجود نفسه نكبة ومعضلة !  

ومعهم أضم أبي العلاء المعري الذي قرر أن لا يتزوج ولا ينجب، وبالتالي فإن أفضل قرار تفعله هو ألّا تنجب أبناءًا بحسبه، فالأبوة جريمة وتعدي، يعلل أبي العلاء ذلك لأن بإنجابه لطفل فهو يورثه المعاناة، ويحكم عليه بالبؤس ..

كتب ابو العلاء في وصيته بيتًا يقول فيه ملخصًا فيه السطور القليلة السابقة :

هذا ما جناه عليَّ أبي

 ولم أجني على أحدًا .


ماذا لو كنَّا وهمًا؟ 

 بقي أن اذكركم بأن السويدي نيك بوستروم يقول بإحتمالية أننا قد لا نملك وعيًا، ولا أخيه، ولا ابن خالته، فهو صاحب أغرب اجابة على سؤالي فوق .

 يعتقد نيك أننا أصلًا لسنا هُنا، ولا وجود لنا حتى نسأل .. فهو يقول بإحتمال أن البشر بعقولهم وأفكارهم وأحداثهم وكل إسهاماتهم،  ماهم الّا جزء من محاكاة حاسوبية ولا وجود لنا أصلًا الا في برامج وهمية فقط ! من يتحكم بنا اذًا؟ حضارة ذكية جدًا متقدمة علينا، وتعيش في جزء من أجزاء الكون الفسيح وتقوم بكل هذا على سبيل التعلم أو الفضول، او الترفيه ! 



كلام نيك قد يبدو غير منطقي، و للترفيه لا اكثر، لكن ماذا فعلًا لو أنّنا وهميين ؟ وكل شي حولنا في الحيز المادي مجرد كذبة و وهم صنعه الفضائي المشرف على صنع شخصيتك ؟ 
‏ثم قرر يخدعك بأن مدونتي موجودة فعلًا وأن هذا المقال حقيقي .. وأنّك تقرأ وتحلّل بوعيك الكامل وارادتك الحرّة، هل يمكنك أن تميز؟ أترك الإجابة لك .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من منكم يعرف أحدًا، لمس الأمم المتحدة؟

ما الفرق بين ابن الرومي، والطيور الإستوائية؟

ليلة القبض على الذوق الرفيع.