يعتبر فيلم "12 رجل غاضب" واحدًا من أبدع الأفلام التي قد تراها في حياتك، لم يبذل المخرج ولا فريق المنتجين جهدًا ليقنعوك بذلك .. احتاجوا فقط لموقع تصوير واحد (قاعة المحكمة في اول الفيلم ثم انتقلوا لغرفة جانبية استمرت فيها الأحداث لساعة ونصف) وقاضي ومتهم وحارس، و 12 رجلًا غاضبين بحق .
حبكة الفيلم تدور حول شاب يبلغ من العمر 18 عامًا متهم بجريمة قتل من الدرجة الأولى والضحية كان والده، استمرت المحاكمة لأربعة أيام كانت فيها أدلة الإدعاء دامغة وصريحة بينما كان فريق الدفاع عاجزًا عن تفنيد شيء .
يعلن القاضي بصوته الرخيم عن انتهاء اجراءات التقاضي، الدور الآن على فريق هيئة المحلفين الـ12 ليحددوا قرارهم بالإجماع سواء كان المتهم مذنب أم بريء دون وجود صوت واحد مخالف والّا سيضطرون لتغيير المحلفين والبدء بمحاكمة اخرى جديدة .
التصويت الأول : فضيلة أن تشك :
الأمور تكاد تكون محسومة، الأدلة واضحة وصريحة والشهود موجودون وشهادتهم ثابتة، في حين قدم المتهم قصة مهتزة وضعيفة جدًا ولا يسندها أي دليل، لنراجع مالدى الطرفين :
1- سمع الجار العجوز في الشقة المجاورة صوت ارتطام بالأرض، خرج ورأى الصبي يركض عبر الدرج بعد ثواني معدودة من تنفيذه للجريمة .
2- رأت السيدة التي تعيش في المبنى المقابل مشهد الجريمة كاملًا، شهدت بأن الصبي رفع السكين وغرزها في صدر والده ليصرعه ارضًا .
3- سمع البعض في الطابق السفلي المتهم يهدد والده بأنه سيقتله، وسمعوا خلافًا قام بينهم انتهى بضرب الأب لإبنه قبل ساعات من الجريمة .
4- سلاح الجريمة -سكين ذات شكل مميز- الذي اعترف المتهم بأنها له، لكن ادعى بأنها سقطت من خلال ثقب في جيبه اثناء غيابه عن البيت في وقت الجريمة .
هذا بالنسبة لما يملكه فريق الإدعاء، اما بالنسبة للمتهم فكانت قصته كالتالي : ادعَّى انه بعد ان نشب الخلاف بينه وبين ابيه خرج من البيت وذهب للسينما، وانه هناك اضاع سكينه التي هي نفسها استخدمت في الجريمة، المتهم لا يتذكر لحظة استجوابه بعد القبض عليه اسم الأفلام التي شاهدها، ولا الممثلين، ولا حتى نوعية العروض .
لم يتذكره احد من العاملين هناك، ولم يره أحد في السينما او في الطريق المؤدي لها او منها، يمكن ان نتفهم بعد ذلك لما كان المحلفين الـ12 عشر قد بدوا بملامح مرتاحة وهادية و واثقة، القضية محسومة تمامًا .. مسألة وقت تفصل الكرسي الكهربائي عن جسد القاتل .
تجمع الرجال حول الطاولة المستديرة، وفي اجراء روتيني قرروا التصويت شكليًا لأن النتيجة محسومة، او على الأقل هذا ما ظنّوه .. صوت الجميع على ان المتهم مذنب ما عدى المحلَّف رقم ثمانية الذي لم يرفع يده، دُهش الجميع .. اما انه احمق لم يفهم القضية او اصم لم يسمع الأدلة، او كلاهما.
- هل تعتقد انه بريء؟ يسأل رئيس المحلفين
- المحلف رقم 8 : لا
- هل تعتقد أنه مذنب؟
المحلف رقم 8 : لا، انا لا أعتقد انه بريء من الجريمة ولا اعتقد انه من قام بها، انا فقط لا اعرف .
يمكن فهم وجهة نظر المحلف الذي واجه غضب زملاءه، هو اراد فقط طرح السؤال والتشكيك، اراد التريُّث قبل ارسال فتى يبلغ من العمر 18 سنة للإعدام،
حتى وان كان الأمر يبدو واضحًا، والقضية محسومة والأدلة صلبة وكل شيء يصرخ بأعلى صوت ان الفتى فعلها ..
لما لا نقول لا (وان كانت بصوت مرتجف) في وجه البداهة؟
الإنحياز التأكيدي للـ11 رجل الباقين : كيف نختار ما نرى :
حتى لا تتحول المقالة لمجرد سرد مُعاد للفيلم سأختصر الأحداث المتبقية، ثم أعرج على الفكرة التي أُريد ايصالها .
بعد وقت طويل من الهجوم عليه والسخرية منه ومن ذكاءه، بدأ بقية اعضاء الهيئة بالتفكير بالموضوع بحرص وحذر، قرروا مراجعة الأدلة وافادات شهود العيان بسبب الشك الذي اعلنه العضو رقم 8 ، بدأو بالجار الذي كان كبيرًا في السن، تأكدوا انه كان من الصعب عليه الوصول بسرعة و رؤية الشاب يركض خارجًا لوجود اعاقة دائمة برجله تجعله يعرج، ومن ثم شهادة المرأة التي كانت في سرير شقتها في الشارع المقابل، لاحظ احد الأعضاء -كان مؤيدًا لإثبات التهمة بعنف- انها تمتلك علامات على طرفي انفها من النوع الذي يسببه لبس النظارات الطبية لوقت طويل، مما يعني انها قالت للقاضي انها رأت الفتى يطعن ابيه رغم انها كانت في سريرها ليلًا تعاني من ضعف نظر وتنظر لمسافة تبعد 60 قدمًا .
فندوا بقية الأدلة بحماسة، فحتى المؤيدين سابقًا اصبحوا هم من يتصدى للطرف الذي يريد اثبات الذنب على الفتى، تساقط اعضاء هيئة المحلفين تباعًا مؤيدين ومعلنين بأن المتهم بريء فعلًا، أولهم كان اكبرهم سنًا وهو العضو رقم 9، الذي برر تغيير رأيه بأنه رأى ان العضو رقم 8 اراد صنع قطب اخر ليتناقشوا ولذلك قرر دعمه حتى ولو لم يقتنع .. ما يهم حقًا كان اخر عضو رفض تغيير رأيه .. المحلف رقم 3 الذي لاحظ البقية انه اخذ الموضوع بشكل شخصي وكأن براءة المتهم تعني موته، وكابر على رأيه وتهجم على الأعضاء .
المحلف رقم 3 أب في الخمسين من عمره، يعاني من مشاكل مع ابنه الذي اعتدى عليه وهجره ولم يره منذ سنتين، على ما يبدو ان قضية اعتداء ابن على والده قد احيت تلك الذكرى العميقة في داخله، وشعر بأن الموضوع يعنيه، وان كل ابنٍ مذنب حتى لو لم تثبت براءته .
بعد ان واجهوه بقية الأعضاء وحاصروه بسؤاله عن سبب تمسكه بإدانة الفتى رغم تهافت الأدلة واثبات ضعفها، انهار وهو يصرخ : مهما فعلت لإبنك لن يثمر في عينيه ابدًا .
بماذا يعنينا الفيلم؟ وماذا نفهم من تمسك الأعضاء كل مرة يكونون فيها في صف ما برأيهم واستماتتهم دونه؟
يثبت في رأيي أن الحياد كذبة، والموضوعية نكتة سخيفة .. البشر كتلة من العواطف والرغبات والميول تخيل انها منذ طفولتك وهي تشكل كل شي تقول به أو تعتقده أو تفعله، مجددًا .. الحياد كذبة والموضوعية كذلك، وحرية المعتقد والإختيار ماهي الا قيد شفاف لا يرى، الإنسان بفطرته وطبعه يحب التموضع ويحب الإنحياز لجهة دون أخرى .
وان حاول اخفاء انحيازه، سيفضحه عقله اللاواعي في أقرب فرصة مثل ماحدث للمحلف رقم 3، مقدر لنا كبشر أن ننحاز وأن نقرّب الخطوة لهوية أو فكرة ما .
سأحكي عن مثال شخصي هذه المرة بعيدًا عن قصص هولييود، قرأت مرة لجارد دايموند، فصرت أفسر كل معضلة امامي وفقًا لمبدأ تكافئ الفرص وتوزيعها، ثم مر علي وقت قرأت فيه لمؤسس علم النفس الحديث سيغموند فرويد فأصبحت ارى كل ماحولي حركةً مدفوعة بالغرائز والرغبات المكبوتة، ثم قرأت لأبو العدمية فريدريك نيتشه وفجأة اصبحت الحياة بعيني صراع وتنافس، ثم مريت على نعوم تشومسكي بحكم تخصصي فأصبح محرك الفطرة والإستعداد العقلي خلف كل شيء .
في كل مرة اعتقدت أنِّي املك التفسير الأكثر حيادًا والأصوب والأقرب للموضوعية، وفي كل مرة اكتشفت ان السر يكمن في مبدأ بسيط جدًا، انني "ارغب" في ذلك فقط .
حتى بعض عمليات العقل التي نعتقد خطئًا أنها حيادية وخالية من العاطفة مثل الحدس، ماهي الّا نتاج تحيز لسلسلة من معالجة المعلومات عن طريق الذاكرة طويلة الأمد، والتي قام العقل اللاواعي -الذي يتحكم بمعظم أفكارنا- لاحقًا بترجمتها وظهرت لنا على شكل فكرة برّاقة في وقت الحاجة .
فكر مثلًا في التخمين، قد يبدو التخمين لعبة من الخبط العشوائي، هل هو كذلك فعلًا؟ التخمين الذي يقوم على اختيارات عشوائية تمامًا من الإنسان ماهو الا برمجة غير واعية لمخزون طويل جدًا من المؤثرات والإنحيازات التي لا تدركها لكنك تسير وفقها مرغمًا، لذلك لو اخترت رقمًا عشوائيًا مثلًا، فأول رقم فكرت فيه هو ما تريده ويريده دماغك نسبة لماضي من الخبرة تجاهه، والتقبل له .
الإنسان غير موضوعي وغير حيادي، تظل تتخطفه الأفكار المبهرة و وجهات النظر يمينًا ويسارًا ويظل حكمه مرهونًا بالفكرة الأكثر انحيازًا له ولرغبته .
تمييزك لشكل ثمرة الكاكاو التي تعتبره فريدًا وجميلًا مثلًا اليوم، لن يكون نفسه غدًا بعد أن تقرأ مقالًا عن البيولوجيا التطورية،ولن يغدو طعمها نفسه حين تعرف ظروف صنعها .. وحين تطيل النظر معجبًا بجمال ريش الطاؤوس، لن يكون هو الإعجاب نفسه حين تعلم الأسباب خلف تكونه، وكيف انه يتسبب بسهولة ملاحظته من جميع المفترسات .
شك المحلف رقم 8 ودعوته بقية الأعضاء للجلوس والتحاور فقط دون الجزم بشيء يذكرني بشك ديكارت، وديكارت فيلسوف فرنسي ابتدع مبدأ الكوجينتو وهو مبدأ قائم على الشك، صحى ديكارت في صبيحة يومٍ ما، وقرر اختبار معرفته وجعلها موضع تمحيص، رأى ان العقل سهل خداعه والتأثير عليه وضرب مثال على ذلك بالأحلام، فخالف فريق المثاليين العقلانيين، ورأى ان الحواس وحدها لا تكفي، و يجري عليها ما يجري على العقل من كونها قاصرة عن تحصيل المعرفة، وانها قد تخدع بسهولة فخالف بذلك فريق التجريبيين الحسيين .. فما ذا بقي اذًا؟ هل تذكر ما فعل المحلف رقم 8؟ بالضبط، الشك وحده هو الأساس وهو ما نجزم بصحة وجوده .. وهو بالنسبة لديكارت مبدأ الوجود كله .
انا اشك اذًا انا موجود، لأن ما يمكنني تأكيد وجوده والبرهنة عليه هو ذاتي المشكِّكة والمتسائلة، انقذ شك المحلف رقم 8 الصبي من الموت ظلمًا، وشكل شك ديكارت عالم الفكر كما نراه اليوم .
تعليقات
إرسال تعليق