تعيسًا مع شكسبير، ولا سعيدًا مع الحمقى .
أتذكر موقفًا لي وأنا طفل بدأ لتوه يختبر فضيلة الفضول، أو سمها خطيئة ان شئت، كيف اني كنت ابحث في محرك بحث جوجل عن (أكبر الأشياء، أشهر الأماكن، أعظم الأعمال والفنون) .. وأنبهر بنتائج البحث وبما توصل اليه مبدعوا العالم ومخترعيه، كيف شيدنا عجائب العالم السبع القديمة والجديدة، كيف ابدع الفراعنة في فن العمارة، والبابليين في فن الحضارة، والعرب في لغتهم، وكيف طور الغرب منهجًا علميًا تجريبيًا ثم صعدوا على متنه، كان الإرث البشري بإختصار لوحة مبهرة متكاملة .
لكن شيئًا ما كان ناقصًا في مشهد الإنبهار الخاص بي، أتذكر لما سمعت عن شكسبير وعن ابداعاته، وبدأت أقرأ له، وكيف أن تاجر البندقية كانت مسرحية مملة عن عقد شكسبير تجاه اليهود، أو أن هاملت كانت تراجيديا بائسة عن مشاكل عائلية .. نصوص شكسبير كانت مثل الطوفان الذي غمر شوارع الأدب العالمي، لكن هذا الطوفان تحول لجدول صغير امام قدمي، لم ألمس الإبداع الذين يقولون عنه ولم أرى عملًا يستفزني شاعريًا حتى، ويمكن أن أضرب نفس المثال وأعيد ما قلت عن شعوري مع لوحات دافينشي وتحديدًا الموناليزا، لأنني لم افهم لماذا يقف الناس في طوابير لرؤية زوجة رجل أرستقراطي جالسة على مقعد تبتسم نصف ابتسامة (والى يومنا لم أفهم، لأني اعتبر لوحة سالفادور موندي هي أفضل ما رسم ليو) .
أو سيمفونيات بيتهوفن -السيمفونية التاسعة خارج الموضوع لأنها عظيمة من اول مرة الى الأن- وأعتقد ان تجربتي ليست غريبة، ولا انا اول شخص في الكوكب يرفض سطوة العمل الأدبي، ان كان مصطلح السطوة صحيحًا .
ما حدث جعلني أسأل نفسي سؤالًا: من منّا على حق، أنا أم شكسبير وليو وبيتهوفن؟
عن المتعة: كيف يقف جيريمي بنثام الى جانبي :
في اجابتي على السؤال فوق، يجب أن نعود بالزمن الى الوراء 300 سنة، ونستقر في لندن عند باب التاجر والفيلسوف والمصلح الإجتماعي جيريمي بنثام، ابتدع جيريمي تحليلًا غير اعتيادي لمفهوم المتعة والسعادة، وتحولت تعاليمه فيما بعد الى مذهب قائم بحد ذاته هو مذهب النفعية الأخلاقية Utilitarianism .. وهو مذهب تقوم فكرته الأساسية على مبدأ أن الخير يكون في تحقيق أكبر قدر من الفائدة النافعة لأكبر عدد من الناس، أي ان مصلحة الغالبية العظمى تسمو على ما عداها .. فصحة القرار مرتبطة بجودة عواقبه، فلا ذوقٌ سيئ ولا ذوق جيد، ولا وجود للرُقي اصلًا في المتعة .
ماذا عن الاخلاق الموضوعية اذًا وما موقفها؟ ماهو معيار الخير؟ ماذا عن مصير القلة القليلة التي دهسها قطار بنثام الإصلاحي؟ في الفلسفة النفعية، هذه اسئلة تافهة، فالموضوعية ليس لها وجود، والمعيار الوحيد هو مقدار الفائدة التي تعود على المجتمع (سواء كان الفعل خير أم شر، فشنُّ الحروب يبدو عملًا رحومًا مقارنةً بإقامة ملجأ للأيتام) واما القلة القليلة فلا بواكي لهم، لأن المصلحة العظمى مقدمة على ما سِواها .
لكن ما علاقة قوانين بنثام الإجتماعية بسؤالي؟ في الحقيقة كان صلب فلسفة جيريمي وجوهرها هو اصلًا سؤال "ما المتعة" وكيف نفرق بين المتعة الأسمى Higher pleasure والمتعة الأدنى lower pleasure كما يسميها هو، لدى جيريمي اجابة تبدو منطقية من بعيد، يقول بأن الشرط الوحيد لنقول عن متعة ما بأنها سامية أو أساسية او كبرى هي أن تحقق أكبر قدر من السعادة لأطول وقت ممكن، بكل بساطة، ويختصر فلسفته في السعادة بمقولة شهيرة: مقدار المتعة التي نحصل عليها من قراءة الشعر، هي نفسها التي نحصل عليها من ألعاب الدبابيس .
وألعاب الدبابيس هي ترجمة لكلمة Pushpin وهي لعبة كان يلعبها الأطفال في انجلترا، اذًا قصائد شكسبير العظيمة وسونيتاته لا تساوي لعبة طفل عند جيريمي بنثام، فأين ما دلتك عليه المتعة، هناك سعادتك .
لكن شكسبير يبقى شكسبير: انتفاضة جون ستيوارت ميل :
ظلّت النفعية مذهبًا قويًا في القرن الثامن عشر، وكان ستيوارت ميل تابع وفي لصديقه الفيلسوف بنثام، فنشأ ابنه جون نشأة "بنثمية" نفعية بإمتياز، وكان تأثير صديق والده عليه كبيرًا جدًا، الإبن جون ستيوارت ميل يمتلك سيرة حياة ذاتية عجيبة، تعلم اللاتينية في سن الثالثة، واليونانية في سن الثامنة، وألَّف في سن العاشرة كتابًا عن تاريخ القانون الروماني وفي سن العشرين تعرض لإنهيار عصبي حاد .
في انهياره العصبي الذي غيّر كل شيء، ترك جون دراسته، وتركوه أصدقاءه، ولم تساعده تعاليم جيريمي بنثام الذي كان يقول بأن المتعة قد تكون ذات ثمن رخيص وتافه، بل ساعدته قصائد ويليام وردزورث -شاعر انجليزي قصائده مملة ورتيبة، لو كنت أملك من الأمر شيئًا لاقترحت على الملكة اليزابيث أن تجعلها بديلة لعقوبة الإعدام- وهي القصائد التي جعلته يقف مجددًا على قدميه .
اذًا فالسعادة قد تأتي على شكل قصيدة عسيرة الفهم، مسرحية طويلة مملة، لا مانع طالما أنك وجدت سعادتك، هذه التجربة الشخصية الصعبة خرج منها جون ستيوارت ميل بفرضية جديدة، وهي أن بعض المُتع أبلغ وأعز قيمة من غيرها، يمكنك ان تبكي على صراع ماكبث لشكسبير لمدة ساعتين ويمكنك ان تقرأ رواية بوليسية رخيصة بتشوق وحماسة .. لكن حتى تستشعر المتعة في أعمال شكسبير، انت تحتاج أن تكون انسانًا متعلمًا، انسانًا مستعد .
***
تعليقات
إرسال تعليق