في الجزء الأول من الدراما السورية الشهيرة باب الحارة، وبعد أن سطى على بيت أبو ابراهيم وسرق ذهبه، اعترف الإيدعشري -بسام كوسا- بجريمته لزوجته التي تفاجئت، ولكن هربًا من تأنيب الضمير صرخ في وجهها الباكي:
"كلنا حرامية، الى متى بنشحذ" ولكن بلهجة سورية يصعب نقلها للتدوينة، ما فعله الإيدعشري كان محاولة لتبرير ما فعل، ولتبرير وشرعنة جريمته، على الأقل هذا ما فهمناه من السيناريو، لكن ماذا خلف ذلك؟
هل هذا يعني أن حس العدالة عند البريء والمجرم على حد سواء؟ وأن المعيار الأخلاقي دومًا ثابت؟ حتى لدى أعتى المجرمين والمعتدين؟ هل وهم يقترفون أفعالهم يعلمون أنهم تجاوزوا حدًا انسانيًا معيّنًا لا نراه لكنّه يعيش داخلنا، ولا نلمسه لكنّنا نشعر به ونسميه الضمير؟ وماذا عن موقف الشر من هذا كله؟ من أين يأتي؟ هذه تساؤلات سأستعين بإجابتي عليها ببسام كوسا، وآفلاطون، وآرسطو، ودوكنز وغيرهم .
قبل كل شيء : من أين يأتي معيار الخير والشر :
محاولة الإيدعشري تبرير فعله وجعله تصرفًا قانونيًا -رغم عدم الحاجة لذلك فهو لا يمتثل أمام محكمة وقضاة- هو دليل على أن المجرم عديم الضمير يمتلك حدًّا أدنى انسانيًا الفطرة الأخلاقية الثابتة، والمطلقة، مثل ما يقول أفلاطون وسقراط تحديدًا (وسأذكرهم تحديدًا كونهم كانوا سببًا في نشأة أكبر وأشهر المذاهب الأخلاقية) فعندهم العدل فضيلة والكرم كذلك والإيثار ونحوهم، فضيلة بحيث أنهم أخلاق ايجابية خيّرة دائمًا تحت أي ظرف، وبلغ سقراط مبلغًا متطرفًا في ذلك وقال بأنه (في مناظرته مع بروتاجوراس) لو اختبئ في منزله شخصٌ هارب وأتى أحدهم يسأل عنه ليقتله، وهو يعلم تمام العلم بأنه لو أخبر عنه سيُقتل، فإنه عملًا بفضيلة الصدق سيخبر عن مكانه رغم علمه بالضرر المترتب على ذلك، وقد صُدم بروتاجوراس بإجابته وعلى ما يبدو أنه تأكد ان سقراط شخص لا يصلح لأن تستجير به وتختبئ عنده، ولا لأن تناظره أيضًا .
أفلاطون تلميذ سقراط ذهب مذهبًا آخر، ونادى بعالم للمثل العليا تكون فيه الأفكار (والأفكار هنا تعني كل شيء) كاملة ومثالية ومطلقة، فالخير قد سبق وجودنا هناك، ونزل معنا هنا، فمثلًا نحن نعرف مفهوم العدالة المطلقة، ومفهوم الدائرة الكاملة، لكنّنا في حياتنا الدنيا لم ولن نرى عدالة مطلقة لإستحالة وجودها، فهي عدالة من وجه وظلم وتعدي على آخرين من وجهٍ اخر، وكذلك الدائرة الكاملة كشكل هندسي، أنت لن ترى دائرة كاملة بشكل تام، فكيف أتت تلك الأفكار التي تعذّر وجودها في عالمنا؟
أتت من عالم للمثل، عالم روحي في مكان ما، سبق وجودنا .. وأنت عندما تكون خيّر فأنت تتذكر فقط "خيريتك" السابقة، وبسام كوسا لما بكى، بكى لأنه تذكر أنه انسان خيّر .
كان هناك اتفاق تام بين المذاهب والمدارس وقتها أن الأخلاق ثابتة، مجردة ومطلقة، لا تخضع لهوى الفرد ومزاجه ولا لتبدل الزمان والمكان، العدل هنا كما أنّهُ هناك، والفعل الفلاني مجرّم في الرياض عاصمة السعودية كما هو في غينيا بيساو في غرب القارة السمراء.
الإختلاف الواضح وقتها كان في مسألة استنباطها، وكيف أننا نعرف أن معيارنا صحيح، وكما نعرف أن أفلاطون نادى بالمُثل العليا أي بالعقل وحكمه كمعيار، بينما معلمه سقراط ثبّت الشيء من حيث انتفاءه، أي عد الجهل مصدر للشرور وبإختفاءه يحصُل الخير، والمتعلم شخص مؤتمن الجانب، أرسطو تلميذ أفلاطون هو الآخر كانت اجابته من شقيّن، الأول كان منطقيًا فيه روح نيتشوية -نسبه لنيتشه- واعتبر أن ما نسميه الأخلاق الشريرة هو مجرد خطأ منّنا في الحكم على الفعل، وفي تقديرنا للتصرف الصحيح.
الشق الثاني من اجابته التي توضح فلسفته في الخير والشر كان عجيب، فهو يعتقد أن ميول الشخص الإجرامية ترتبط ارتباط وثيقًا بملامح وجهه! ومن شكل وتقسيمات وجه الشخص يمكن معرفة ان كان خيّرا أو شريرًا .. بمعنى أنه لو كان بسّام كوسا أوسم قليلًا لما سطى على بيت أبو ابراهيم في فجر ذاك اليوم المشؤوم .
آبيقور والآبيقورية : أن تفعل مابدا لك :
وجب أن أشير قبل أن اشرح فلسفة آبيقور إلى أن تفسير أرسطو اتضح تهافته، وأن الإنسان وسيمًا كان أو قبيحًا، غنيّا أو فقير، هو يملك نفس الإستعداد ان صح القول لممارسة الشر، أيّا كانت هويته .
عاش آبيقور في فترة خلت من سقراط وافلاطون وأرسطو لكن لم تخلوا من تأثيرهم، أتى بتفسير جديد لما نعرفه عن الخير والشر، وضح آبيقور قانونًا يبدو بديهيًا من بعيد لكن في ذلك الوقت كان ثوريًا جدًا ومؤثرًا .. القانون كالتالي :
كل فعلٍ نفعله لهُ غاية
الغاية هي أن نحقق قدرًا من السعادة أو نجتنب الألم
اذًا =
الغاية الخيّرة هي أن نكون سعداء فقط .. ما عدى ذلك شر .
هذا ما يُعرف بمذهب اللذة، واللذة حسب اصطلاح آبيقور لا تعني الإنغماس الشهواني الأعمى بل تعني تجنب المعاناة قدر الإمكان، حتى وإن كان ذلك يعني عدم الإستجابة لرغبات معيّنة، وهذا التفسير الذي يضع السعادة على رأس الرغبات الضرورية، بل يضعها في منزلة الرغبة المطلقة قد يكون ملائمًا لبسام كوسا، وقد يكون عزاءًا له .. لكن قانون آبيقور على فردانيته الفجّة وعلى تمركزه حول الفرد يضع شروطًا أهمها أن لا يتسبب الفعل الذي يعود بالسعادة علي بأذىً لغيري .
* أبو ابراهيم جلس طريح الفراش شهورًا بعد ما حدث، لذلك الأمر محسوم .
- ماحدث بعد الآبيقورية كان طوفانًا فلسفيًا بإمتياز، فتح الباب على مصراعيه لكل فلسفة وفكر أن تفسر الأخلاق كما تشتهي، السفسطائيون يقولون بأن الأخلاق تقدير ذاتي، حكم يحكمه الفرد على ما يراه خير وشر، أمّا الرواقييون يرون بأن العالم كله خير إن لاحظنا الصورة الكبرى، وأن الشر مجرد حوادث عرضية تحدث، وقد ساهمت الفلسفة الرواقية في جعل روادها يتعايشون مع مصابهم، فسينيكا الرواقي كان عبدًا لدى سيد ظالم قام بضربه حتى أُصيب بالشلل، والإمبراطور ماركوس آوريليوس فقد ابنه وزوجته في فترة بسيطة ولولا تعاليم الرواقية بحسب كلامه لما نجى من تجربته الصعبة، أما زينون أشهر رواقي فقد كان تاجرًا في رحلة بحرية، فغرقت سفينته أمام شواطئ آثينا، ولما نجى ذهب لآروقة المدينة متفلسفًا ومفكرًا، ومنها أسس فلسفته ومنحها اسمها .
اما في عصرنا الحالي فنحن نتاج نسقين ضخمين في التعامل مع الخير والشر، مع العدالة والظلم، نسق يعرف بالنفعية (شرحتها في تدوينة سابقة) ونسق ظلامي أشعر تجاهه بالحذر، واتنبئ بمستقبل باهر من الكوارث والمصائب للبشرية جمعاء فيما لو طبقناه، وهو نسق الأخلاق التجريبية .
بإختصار، سواء كنت في مكان بسام كوسا الإيدعشري أو في مكان الضحية أبو ابراهيم، أو حتى كنت مكان أي شخصية خيالية أو واقعية، فأنت بحسب التجريبيين لا يمكنك أن تتبين شيئًا دون أن تجربه، دون أن تختبر ما ان كان يعود بالنفع عليك وعلى المجتمع .. حتى وإن كان يعني السرقة أو الإعتداء أو الظلم، نحن لا نملك معيارًا سواء تجربتنا الشخصية المحدودة المنحازة والتي تتأثر بآلاف العوامل، الكارثة مع معيار كهذا أن كل شيء يمر من خلاله يبدو مائعًا وهلاميًا ويمكن تقبله طالما حتى ولو شكل ضررًا، إن أردت مثالًا .. سأذكرك بإجابة ريتشارد دوكينز أكبر منظرّي الأخلاق التجريبية وانتفاء المعيار الثابت على سؤال بديهي كان: هل يمكن تجريم الإغتصاب؟
كانت اجابته: هذا أمر اعتباطي، لا يمكننا ذلك .
وهذه اجابة سيرفضها الإيدعشري، بل بظنّي سيسخر منها، هو وأعتى مجرمي الأرض قاطبة .
تعليقات
إرسال تعليق