القصص والملاحم الأسطورية التي نحكيها لبعضنا جيل تلوَ جيل، في أعماقها هي مجرد انعكاس لما في دواخل لاشعورنا، تصوير وتجسيد لخيالاتنا وأحلامنا ورغباتنا وأحيان حتى مخاوفنا، الفرق أننا نقوم بترميزها، وتقديمها بشكل مبطّن غير مباشر .
انعكاس مباشر لرغبة مدفونة في العقل الباطن أو مخاوف اعتقدنا أن العقل تجاوزها، لكنها ظلت محفوظة هناك تنتظر ثغرة تنفذ منها لبقعة الضوء، للوعي، لمنطقة التفكير الواعي وهناك تتحول بدورها لشكل رمزي مبهم، لأنها حُفظت بهذا الشكل .
خذ مثالًا على ذلك من الفلكلور الفارسي القديم، القديم جدًا، هناك قصة تسمى "سر قصر العدم" وتحكي عن مغامرة للأمير النبيل حاتم الطائي -ولا أعرف كيف وصل حاتم الطائي هناك- بعدما تلقى أوامر من ملكه أن يذهب للقصر الغامض ويكشف أسراره وخباياه .. يذهب حاتم رغم سماعه بالمصير المروع لكل من سبقه وحاول دخول القصر، وبعد وصوله يصادف رجلًا يحمل مرآة يستعملها كدليل، ما ان يدخل حاتم مع الرجل والمرآة حتى يُغمر المكان فجأة بالمياة وسط دوي الرعد وتلبد الغيوم ويختفي الدليل مع مرآته، ويسود الظلام المرّوع .
وبعد صراع طويل ينجو حاتم بعد ترتيله للصلوات وبعد أن لمس حجرًا مقدسًا في القصر، وفجأة تنحسر المياه ويعود كل شيء كما كان، ثم يخرج لحديقة غنّاء، ويسمع صوتًا يخبره عن ماسة ثمينة مخبأة بالقصر، وعن تحدي فيه حياة أو موت ينتظره، على حاتم الطائي أن يصيب بالسهم ببغاء مسحور حتى ينجو ويحصل على ماسة أو سيتحول لحجر، ينجح حاتم باصابة الببغاء في آخر محاولة، ويكتشف وجود الماسة مكان الببغاء، ويعود الجو صحوًا ومشرق .
ماذا تعني القصة؟ وأي أفكار لاشعورية زرعها الفرس هناك على عاتق حاتم وقصر العدم؟
بحسب الدكتور لويز فون فرانز، وهو تلميذ لكارل يونغ أحد أبرع العقول في مجال علم النفس، فإن القصر والرحلة هي ساحة العقل، أما الألماسة وهي الهدف النهائي للرحلة فهي حالة النفس الكلية، حالة التسامي التي يبحث عنها المرء طوال حياته، هي السلام الداخلي عند المسيحيين، والنيرفانا عند البوذيين، هي السامسارا عند الهندوس وهي الإتحاد مع التاو عند الصينيين .. سمها ما شئت، الرغبة البشرية مشتركة وان لبست ألف قناع، أما الرجل ذو المرآة فهو ومرآته على السواء يمثلون التفكير المنطقي، الصوت الحكيم والمشورة السديدة التي يحتاجها من هو في معضلة وكارثة وقد سدّت في وجهه كل الطرق، الصوت الذي أتى من فوق بالتوجيهات والأوامر يشير لنفس الدور، أمّا الببغاء فهو اشارة للظل عند الإنسان، مستودع الأفكار الشريرة والرغبات التي نحاول كبحها ولجمها .
الدكتور فرانز يونغي، يتبع فلسفة يونغ في التحليل النفسي الذي يقول بأن حياة الإنسان وأفكاره اللاشعورية تترجم على شكل رموز، ان رغب الهرب من وطأة واقعه اخترع شخصية بطل خارق يهزم الظروف مثل باتمان أو سوبرمان، قد يخترع الجميلة والوحش ويرمز لهم بالفكرة المثالية التي تقول أن قوة الحب فوق كل اعتبار، أو يأتي بغايو مارت الفارسي، افاتار الهندي، المهدي المنتظر، جلجامش السومري، المسيح، أو حتى رجل نيتشه الأخير .. ثم يطبع عليهم فكرة المخلص المنقذ الذي سيعيد التوازن للكون بعد أن يستشري الشر فيه .
بدل أن تفتش عن السبب الذي جمع حاتم الطائي بالحضارة العيلامية الفارسية، أو أن تبحث عن الصدفة التي قادت الفرس لأن يختاروه كبطل للقصة، فتش عن ما بداخل الفارسي الذي قص القصة، ثم فتش عن رغباتك وأفكارك العميقة الكامنة تحت ستار الوعي، هناك ستكتشف أن كل أسطورة، وبطل، وميثولوجيا، تتشابه حد التطابق .
تعليقات
إرسال تعليق