خطيئة الأدرينالين .


يتسمر أمام شاشة السينما أو شاشة التلفاز لساعتين ونصف، ينتظر مشهدًا مفزعًا يفجر صرخاته ويقشعر جسده كاملًا، ورغم الشعور العارم بعدم الأريحية والخوف والتوتر والقلق، الّا انه ما إن تمر موجة الخوف حتى ينتفض خياله راغبًا في المزيد .. في مشهد عجيب يطرح تساؤلات عدة: 

هل هذه حمّى الأدرينالين؟ وهل هو مظهر من مظاهر إدمانه؟ أم أنّها فكرة مازوخية دفينة تعكس رغبة الإنسان في تعذيب نفسه؟ 

وكيف يمكن لنا أن نفهم كيمياء أفلام الرعب، كيف أسس الإنسان لصناعة ضخمة من خلف كل مظاهر الرعب من أدب وروايات وأفلام، واحتفالات، وأزياء وأقنعة؟ 


المشاهدة من بعيد: تجربة بلا عواقب: 

كيمياء أفلام الرعب مميزة فعلًا، رغم أنها تعطينا مشاعر مزعجة وغير مريحة تقريبًا طوال مدة الفيلم، الّا أننا نفضلها دائمًا ولسبب جوهري بسيط، لأنها تعطينا تجربة مخيفة ومرعبة بكل تأثيراتها البصرية والسمعية بلا عواقب ومن غير أذى وضرر يلحق بنا، أو ثمن ندفعه، وبدون أن نتأذى نفسيًا في الغالب -خصوصًا للبالغين- لعلمنا بحدود التجربة .

في فيلم The Conjuring مثال بديع، تنزل الأم التي تسكن مع بناتها الخمس في بيت قديم في طرف المدينة انتقلوا له للتو للدور السفلي في أخر الليل البهيم لتشرب كوب ماء، لا أحد مستيقظ غيرها، وأنت كمشاهد تعلم أن القادم مرعب ومفزع، لأنك لاحظت تغير الموسيقى، ثبات الكاميرا وتركيزها، تغير ملامح الأم التي سمعت  صوتًا في القبو، فتذهب بنفسها وتقف على الدرج من فوق وتستعد للنزول، في الحياة الواقعية، أنت لن تكون فضوليًا مثلها ابدًا في مثل هذه الظروف، وعلى حسب مستوى شجاعتك، قد تهرب للأعلى أو لخارج البيت .. لكن لأن الأم المسكينة ستقوم بالتجربة بدلاً منك، فلما لا؟ 


دقات قلبك متسارعة، غرائزك مُستنفرة، أنت مستعد أكثر منها للهجوم أوللدفاع، أو القفز أو الهرب حسب ما يتطلبه الموقف، ولما نزلت الأم للقبو، وبعد حبس أنفاس استمر دقائق ظهر لها كيان شيطاني أشبه بالوحش قام بالإمساك بها وسحبها وسط صرخات استغاثة منها، حصلت أنت على دفعة الأدرينالين، وفزت بتجربتك الرهيبة، ولم يعد يهمك مصيرها .. لأن الوحش قبض عليها لا عليك ! 

أنت كمشاهد، سواء كنت تتابع الفيلم المذكور فوق أو أي قصة رعب أخرى، ستقوم فورًا بتقمص دور الشخصية التي هي مركز صميم الأحداث، أم تنزل للقبو وحدها، طفل يمشي في الغابة لوحده، الرجل الذي يبحث عن مصدر الصوت الذي سمعه في بيته، مجموعة الأصدقاء الذين يقررون القيام بمغامرة والإنعزال في كوخ وحيد، تخيل أي تجربة تريدها وتتردد ألف مرة في فعلها بواقعك، لكنك جاهز لأن تعيشها تخيليًا في عالم خالي من العواقب والمحاسبة .. لأنك أنت من تملك زر إيقاف اللعبة .

تدريب بدائي لكي لا نفقد اللمسة: 

هناك وجهة نظر أخرى تفسر هوسنا بأفلام الرعب، وهي أنها تغذي الإستعداد الغريزي بداخلنا .. أي أن أفلام الرعب لا تعبأ بأدمغتنا ولا عاطفتنا، هي تستفز مباشرةً الغريزة البدائية، غريزة البقاء في أشكالها المتنوعة كالهرب من مفترس، أو الخوف من الفناء في الكوارث الطبيعية، أو على يد جماعة منافسة .

دكتور الأعصاب كريستيان جاريت في مقالةٍ في الـBBC يذهب بعيدًا، ليؤكد أن هناك حتى غريزة محددة لكل نوع من أفلام الرعب، كغريزة الخوف من الأكل حيًا مثلًا To be consumed alive التي تجعلنا نفضل أفلام الزومبي، ونستمتع بإثارة الغريزة وخداعها دون حدوث شيء، كما أنه ربط طرديًا بين كمية التعليقات السلبية الصادرة تجاه فيلم ومستوى تأثيره، فأنت ان لم يحُز فيلم الرعب على اعجابك فتأكد أنه قد استفزّك غريزيًا بما يكفي .



وبعيدًا عن الأفلام، بل وبعيدًا عن الرعب حتى، يمكن أن نسقط التفاسير أعلاه على رغبتنا بمشاهدة كل تجربة متطرفة Extreme stunt كالقيادة المتهورة أو المشي على النيران أو حتى رياضة الباركور -ماعدى التي يمارسها مايكل سكوت في The office-  لأنها تمنحك أذكى معادلة في الحياة: غيري يمارس التجربة = أنا أتعرض لشعورها .


ويمكن اجمالًا تلخيص فلسفة الرعب، بعيدًا عن المنظور النفسي أو التطوري بأبيات الشاعر اليمني عبدالله البردوني:

"والمرء لا تُشقيه الّا نفسهُ      حاشى الحياة بأنها تُشقيه"



- اخر صورة من فيلم Smile ، وهو فيلم حرص مخرجه على ضمان وصول التجربة الغريزية بالكامل للمشاهد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من منكم يعرف أحدًا، لمس الأمم المتحدة؟

ما الفرق بين ابن الرومي، والطيور الإستوائية؟

ليلة القبض على الذوق الرفيع.