عن الذي هُناك في الأعالي.
قبل أن أسترسل في سطور هذه التدوينة، أوّد أن أشارككم وجهة نظر شخصية ليست بالضرورة صحيحة لكنها تحمل أوجهًا من المنطق، في إعتقادي البسيط .. لا توجد فكرة أصيلة على وجه الأرض، ببساطة .
كل الأفكار التي نصفها بالأصالة، بالإبداع، بالتفرّد والحداثة إنّما هي أفكار بُنيت على أنقاض أفكار سبقتها، واعتمدت في عظمتها وحداثتها على هياكل لأفكار أبسط وأقدم .. البشر كائنات محاكية emulators تقلد وتتماهى مع أقرانها وما حولها، بهكذا خاصية تحدثنا اللغة، تعلمنا المشي، وأنتجنا الأفكار!
فلولا عالم المثل لدى أفلاطون لما استوعبنا الفلسفة الكمومية الحديثة، ولولا رسائل غفران المعرّي لما كتب دانتي كوميديته الإلهية التي نعرف، واضطر جيمس وات أن يطلع على مخطوطات قديمة لآلات تعمل بطاقة البخار ليخترع واحدًا من أعظم الإختراعات في تاريخ الحضارة، ولم يفكر داروين في رحلته في جزر الجالاباجوس أن المخلوقات جميعها تناسلت من سلف مشترك وتمايزت في أشكالها بفضل قوانين البقاء، بل سبقه جده ايراسموس داروين وسبقهم قبلهم إمباذوقليس اليوناني.
معرفتنا تراكمية، فكرة فوق فكرة ومعرفةً تضاف لمعرفة، حتى نصل للفكرة التي أراها أول وأخر فكرة أصيلة في تاريخ البشرية جمعاء، فكرة الإيمان بالمطلق.
المطلق المُتسامي: أول شكل للتوحيد:
يُخيّل لي أحيانًا أن أول انسان وعى على الوجود -بعقله- فكر في أن هناك شيء ما متسامي فوق الوجود ذاته، شيء قبل الوجود، وله كل الوجود، وسيبقى بعد أن يفنى الوجود .. شيء يتعالى على مادية الكون وذراته، وفي نفس الوقت يعطي دافعًا لكل شيء، حتى للإنسان الأول الذي فكّر وتدبّر، لكن ماهو هذا الشيء، وكيف يمنحنا غاية؟
يعتبر الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر أن للإنسان كينونة تقوده، كينونة تقود التاريخ كله والوجود، تُعطي معنى للحياة وتضفي تسامي وغاية لها، لا يمكنك رؤية الكينونة ولا سماعها، لكن يمكنك الشعور بها وبوجودها، هي طاقة تعمل في كل شيء حولك، حي كان أم جماد .
ومثل "كينونة هايدغر" هناك "ثايموس فوكوياما" وهو مصطلح يوناني يشير للإندفاع والحيوية الروحية، استعمله المفكر فوكوياما لتدعيم رؤيته بأن التاريخ يسير في خط مستقيم نحو التطور والتقدم، وسينتهي تقدمه للشكل الليبرالي الحالي، لكن هايدغر نازي يؤمن بمبدأ القوة والإندفاع كما أنه عانى من تجربة مرضية مع القلق ومع فكرة العدم فابتدع فكرة الكينونة -التي هي جُلّ فلسفته- وفوكوياما مادي متطرف .. فإن أردنا البحث عن فكرة المطلق وجب علينا الرجوع للماضي قليلًا، تحديدًا 4500 سنة قبل الميلاد مع قبائل كانت تعيش في سهول القوقاز .
الروح كليّة الإنتشار:
كانت القبائل الآرية التي استوطنت جنوب القوقاز تبجّل قوة غير مرئية، وتُضفي على تلك القوة صفة القداسة، هي قوة كامنة في الأشياء وفي البشر وفي الظواهر، وكان كل شيء حولهم ماهو الّا تجلّي لهذه الروح التي سمّوها Manya .
هذه ليست أول أشكال توحيد الله سبحانه، لأننا لا نعرف بالضبط ماذا قصدوا بالـManya وهل هي تشبه في صفاتها صفات الإله المعبود كما نعبده، أو أنها شكل من أشكال الترجمة الخاطئة للشعور الداخلي الفطري والعميق الذي يكبر معنا كما تكبر صفاتنا وأعضائنا، والذي يقول لنا أن هناك إله، ومعنى وغاية.
تطّورت الروح كليّة الإنتشار كما يقول الآرييون مع دخولهم للهند، وتأسيسهم للتعاليم التي أصبحت لاحقًا الهندوسية -وعلاقة الهندوسية بتوحيد الآريين الصافي كعلاقتي أنا بنازية هايدغر أو ليبرالية فوكوياما- فأصبحت الروح "براهمان" الذي يمكن القول عنه بأنه توحيد خالص، براهمان هو الحقيقة الجوهرية الوحيدة حسب تعاليم الريج فيدا -كتاب البراهمية المقدس- وهو ما يبقى كل شيء في نظام وتناغم، ويمنع الكون من الإنهيار، يتدخل في الكون ويضبطه ويحافظ عليه، فهو ليس الهًا خلق العالم وأدار له ظهره مثل إله أرسطو وليس إله نيوتن الميكانيكي الذي أعطى الكون حركته واختفى .. بل هو توحيد خالص نحو مطلق متسامي غير عاجز.
فكرة الإيمان بالمطلق ليست فكرة من اختراع الآريين، بل هي أقدم من ذلك بكثير، هي فكرة تشبه السهم -ليس سهم فوكوياما الخطّي- الذي ينطلق عبر التاريخ وفي كل مسار وتحول تبرز له تمظهرات وتصورّات تبتعد أو تقترب من صحتها، فالشامانية مثلًا كانت تمظهر خاطئ لها، والشامانية هي أن يتجسد المطلق عبر رجل القبيلة البدائي ويوحي له ويحل في جسده، مانحًا اياه الإلهام المطلوب لتقرير مصير القبيلة مثل اختيار مواعيد الصيد، أو اعطائه القدرة على علاج الأمراض والتواصل مع الأسلاف الموتى.
فكرة المطلق بزغت في نفس الوقت تقريبًا في الشرق الأوسط، مثل ما بزغت في عقول البشر كلهم كفكرة خالصة أصيلة كونها من وحي إلهي، وكان أول ترجمةٍ لها هي الترجمة الأكادية في بلاد مابين النهرين وتسمت بإسم إيلام ilam .. وهي قوة وضّاءة تتسامى حتى فوق الآلهة الوثنية التي هي مجرد انعكاس لسطوعه ولقداسته النورانية “ellu” .. أخذ العبرانيون الأوائل تلك التسمية وحولوها لإلوهيم elohim وهو لفظ عبري بديل، وهكذا، تشديدًا على فكرة المقالة كلها، أن الشعور والفكرة الفطرية واحدة (وجود المطلق) لكن ترجُماته شتّى (مانيا الآريين وبراهمان الهندوس وايلام الأكاديين وإلوهيم بني اسرائيل) .. الوجود الذي لم يجد مؤلف الإينوما ايليش -الملحمة البابلية- مخرجًا ولا وصفًا مناسب سوى أن يتوجه له بالنداء الذي قال فيه؛ الذي هناك في الأعالي، وهو ما سأستخدمه عنوانًا للمقالة.
العجيب فعلًا أنه كل ما تعمقنا في التاريخ، حتى عند كائنات أقل ذكاءًا منّا مثل انسان النياندرتال الذي عاش قبل 350 ألف سنة لوجدنا نفس الفكرة الأصيلة، كانت جماعات النياندرتال التي نظنها بدائية تدفن موتاها في وضعية الجنين، لإيمانهم بأن موته يعقبه ولادة في عالم آخر، عالم المطلق والمتسامي، عالم الله سبحانه.
- ولأن كل فكرة تعتمد على فكرة سبقتها، فالواجب أن يشملني هذا الكلام، كُتبت هذه التدوينة المتواضعة بإلهام "أصيل" من كتاب الباحثة كارين آرمسترونج "god,why?" .
تعليقات
إرسال تعليق