شاهدت قبل فترة وثائقي يعرض لغات مختلفة من منطقة جزر الكاريبي، المشهورة بسواحلها الخلّابة وطبيعتها الإستوائية هناك على حدود التقاء المحيط الآطلسي بخليج المكسيك، في الوثائقي كان الأشخاص عديدون، يتحدثون لغات مثل الجامايكية والهاييتية والكوبية، وكانوا يتحدثونها بسهولة وكأن اللغة لغة لا فقارية، مرنة ومراوغة وخالية من حروف العلل والتوقفات وحتى علامات الترقيم، ومخارج الحروف تشعرك أن الكلمات تسبح خارجها بأقصى سرعة، كأن أهل الكاريبي لا يتحدثون اللغة، بل يطيرون بها!
هل تختلف اللغات فعلًا في نطقها؟ هل بعضها بطيء وصعب يشبه مسير رجُلٍ يتعثر؟ وبعضها الآخر يشبه طيران ايكاروس الإغريقي في كبد السماء؟
أهل الكاريبي لا يطيرون:
اللغات السواحلية مثل لغات أهل الكاريبي ليس لها أجنحة، لا تحلّق بهم للأسف ولا تركض بهم ولا هم يحزنون، لكنها في تصنيف اللغات تعتبر لغات نغمية Tonal Languages وهي اللغات التي تعتمد على التعابير الصوتية في إيصال المعاني، وعلى المعاني الصوتية أكثر من اللفظية لإيصال المشاعر والأفكار دون الإعتماد على معاني الكلمات نفسها، فتكثر فيها تعابير مثل الدهشة وكتم الأنفاس و إنشراحة الصدر مع نفخ الهواء، كل هذا يدمج في الكلام المخاطب، واللغات السواحيلية والآسيوية تركز على الحروف المتحركة أكثر من الساكنة أو التي تسمى حروف العلل (وهي من مسببات بطء الكلام) على عكس اللغات الهند-أوروبية .. واللغات النغمية Tonal Languages تعتمد أيضًا على طبقات الصوت ونغماته، أي أن الكلمة قد تُكتب بنفس الحروف وبنفس المقاطع لكن معناها قد يختلف بإختلاف النغمة، مثل كلمة “MA” في اللغة الصينية (الماندارين).
لكن هذا لا يجيبنا على سبب انشراحة الكاريبيين عند التخاطب، ولا يعلل طريقة تحدثهم البسيطة التي -وعلى سبيل المثال- تتميز وتختلف تمامًا عن طريقة تحدث البريطانيين مثلًا، أو شعوب أوروبا، أو لهجاتنا العربية المتعددة، وهذا ما يقودنا للحديث عن السبب الفعلي فعلًا، البيئة وتأثيرها.
معركة الجغرافيا واللغة: تأثير البيئة على تواصلنا:
لاحظ بعض اللغويين أن اللغات النغمية لا تتوزع بشكل عادل، بل إن لها نمط انتشار يمكن تعقبه وتحديده، تنشط عوائل اللغات المذكورة فوق في المناطق الحارة وذات الأجواء الرطبة، وعدّدوا الباحثين 600 لغة تنشط في أسيا وأفريقيا والمناطق الإستوائية، وتكادُ تنعدم في الأجواء الباردة والجافة، والعكس صحيح، اللغات غير النغمية كشجرة اللغات الهند-أوروبية وشجرة اللغات السامية (أو الأفرو-آسيوية) بعيدة عن المناطق الإستوائية والرطبة، فما السبب؟
السبب بمنتهى البساطة يعود لعضوين ينشطان في قفصك الصدري، الرئتين.
لا يمتلك أهل الكاريبي مزايا جسدية غير عنا، ولا نمتلك نحن سعة تنفسية تفوق ما عندهم، لكن الأمر كله يكمن في علاقة الرئتين بالبيئة، في المناطق الباردة الجافة تصعب جدًا عملية التنفس بشكل بسيط لا يكاد يرى، لكن الصعوبة تُلاحظ عند القيام بعملية تتطلب جهدًا عالي واستخدام للرئة، هل خمّنت العملية؟ نعم عند التحدث والمخاطبة، ففي الأجواء الباردة يصعب على المتحدث اصدار أصوات أو طبقات صوت مختلفة سواء رفيعة كانت أم منخفضة، بسبب الضغط على الرئة وصعوبة التنفس وكثافة الهواء البارد العالية، وهذا ما يلاحظ على سكان الجزيرة أصحاب مخارج الحروف الضيقة وأصحاب الأصوات المخففة والمحذوفة Elision كمثال، وعلى العكس في أهل المناطق الاستوائية التي تكون مخارج حروفهم سهلة وسلسة، ليس سرًّا أن للبيئة تأثيرًا على الإنسان وتفكيره وفنّه وكل إرثه، كما أنها تؤثر على محدودية لغته من عدمها وعلى طريقة استخدامه للمفردات، فالإنسان رهين بيئته، وابنٌ وفيٌ لها، وما اللغة الا طريقة للتواصل ستحمل -رغمًا عنها وعنه- توقيع وبصمة بيئته.
في دراسة ضخمة جدًا للعالم Caleb Everett درس فيها 7000 لغة حول العالم، وجد أن للبيئة تأثير آخر غير حساب الإرتفاع والضغط الجوي ودرجة الحرارة، بل إن حتى العوائق البيئية كالأشجار الكثيفة في الغابات والجبال الضخمة تشكل عائقًا أمام حدة الصوت وسهولة المفردة،مما حدى بسكانها لكي يتكيفوا ويكيّفوا لغتهم على قوانين البيئة القاسية المفروضة عليهم، وعلى العكس في مناطق السهول والأحراش، فالمفردات قد تصبح معقدة ويتفنن البشري فيها كيفما شاء لسهولة انتشارها ووصولها.
الخلاصة أنه في المرة التي القادمة التي تسمع فيها طريقة تخاطب عجيبة وتكاد تكون مضحكة بين اثنين، وكأنهم يطيرون بها -مثل ما استنتج كاتب هذه السطور- وفي المرة القادمة التي تتسائل فيها عن سبب عدم الإنجليز لحرف الـR أو سبب أن ثلاثة أرباع الأصوات في الجملة الفرنسية تتواجد ولا تنطق، فتّش عن البيئة، لا تفتش عن أشياء غير منطقيٍ تواجدها كالأجنحة.
تعليقات
إرسال تعليق