المشاركات

طربان بعض أيامي، وأيام محزون.

صورة
  تسري الموجات الصوتية عبر طبلة أذنك، وترتد عنها عبر العصب السمعي إلى داخل دماغك، ثم تضخ الغدة الكظرية -كإستجابة- الأدرينالين إلى مجرى دمّك، تتسارع نبضاتك وتُصبح متحفزًا جدًّا، ثم يغمرك شعور بالخدَر البسيط. هذه ترجمة علمية لتجربتنا مع الموسيقى، ترجمة تخل بالمعنى الحقيقي، ولن تستطيع وصفها أبدًا. ماذا تعني الموسيقى بالنسبة لنا؟ ما آثرها على أدمغتنا؟ وماذا تعني الألحان والنوتات والترانيم والدندنة بالنسبة لها؟  التجربة غير المفهومة: عجز اللغة عن وصفها يعدد الباحث جورج شتاينر ثلاث أنساق ضخمة يعجز العقل البشري عن فهمها.. غنية بالمشاعر للحد الذي لا يمكن التعبير عنه، الدين واللغة والموسيقى. وهي أنساق تتجاوز حدود قدرتنا اللغوية والوصفية، فمثلًا؛ نفهم أن تلك النغمة الملحمية أو تلك المقطوعة شيّقة وتعطي شعورًا عجيبًا، لكن كيف يمكن وصف ذلك الشعور؟ كيف يمكن تحديده؟ ماذا عن تعيينه وعزله لدراسته اذًا؟ لن نستطيع ببساطة، لأنها تجربة ذاتية متعالية على كل شيء. هل تتذكر شعورك عندما تستمع لأغنية حزينة؟ ما المتعالي في الحزن نفسه حتى ينضم تحت تصنيف شتاينر؟ هل استمعت لمقطوعة Lacrimosa لموزارت؟ والتي ت...

ما الفرق بين ابن الرومي، والطيور الإستوائية؟

صورة
  في البداية، عليك تجاهل السؤال الذي بالعنوان، لأننا سنعود له لاحقًا.  ما الفارق الجوهري والحاسم بين نوعنا كإنسان عاقل، وبين غيرنا من الأنواع؟ أهو العقل بكافة آلياته كالوعي والإدراك؟ أم اللغة مثل ماينادي به اللغويين؟ أم أنها خصيصة أخرى مميزة وفريدة؟ إن كانت مايميزنا العقل ووعينا بذواتنا، فهذه إجابة -وهي الأشهر والأكثر منطقية- تطرح الكثير من الأسئلة، فالعقل لا تعريف له، ولا يمكن تعيينه ولا تحديده، والوعي بذواتنا هي خصيصة ظننّا سابقًا أنها تخصنا، لكن أبحاثًا حديثة أثبتت أن بعض الحيوانات قد طورت وعيًا بذاتها، وعيًا يخصها هي وآليات عقلية هي وحدها قادرة على فهمها، فعقل وذكاء الإنسان أصبح مجرد مرتبة في سلم مراتب، قد نكون في أعلاه، لكننا بالتأكيد لسنا وحدنا.  ما الذي يميزنا اذًا؟ ببساطة ليس الوعي نفسه، بل تيّار الوعي. تيّار الوعي: فوضى الإنسان الخلّاقة: للبشر وعي وللحيوانات وعي، ونستجيب لنفس الدوافع الغريزية والمشاعر، ونملك الإستعداد الجيني ذاته، كيف ولماذا قررنا أن وعينا هو الأميز!  ‏بالواقع، وعينا يتميز بأنه شبكة ضخمة من المشاعر والتجارب المشتركة، الحب والكره والخوف والرغ...

من منكم يعرف أحدًا، لمس الأمم المتحدة؟

صورة
الأشياء التي لم تكُن هي، في الحقيقة، أعظم وأقوى من الأشياء التي كانت.  -انجيل يوحنا، الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس.  ان كلمة السر الجوهرية خلف كل اسهام قدمته البشرية، وخلف كل ارث واختراع واكتشاف، يعود لقدرتنا على صنع خيال مُشترك، خيال جمعي وصورة موحدة كبرى نصدقها ونؤمن بها كما لو أنها واقع مادي له وجود، ونذعن لها ونطيعها ونحترم وجودها التخيّلي، وهي خدعة مفيدة، أو لا تُسمّها خدعة، لكنها منحتنا التنظيم اللازم للإنطلاق، ومنها صنعنا أول الحضارات البشرية، طوّرنا الزراعة، اخترعنا الرأسمالية والشيوعية، وهي نفسها السبب خلف قيامنا بالثورات والإنقلابات والحروب .. الكيانات الوهمية التخيّلية. تذكر متى آخر مرة سمعت عبارة: الموظف أساء للشركة، أو رأيت سياسيًا غاضبًا أو دبلوماسيًا متوترًا تستدعيه حكومة الدولة المضيفة على وجه السرعة وتطلب منه حزم حقائبه، لأنه بشكل أو بآخر أهان البلد وأساء للدولة، لكن لحظة.. دولة! أي دولة؟ وماهو شكلها وأين حدودها وكيف يمكن لمسها.. من منكم لمس الأمم المتحدة، أو رأى مصر وهولندا يتبادلون التمثيل الدبلوماسي يدًا بيد فعلًا؟ من منكم رأي نفس الشركة التي أساء لها المو...

ليلة القبض على الذوق الرفيع.

صورة
هذه السطور هي تطوير واسترسال لمقالة قديمة تناقش نفس الفكرة، عن المتع السامية والمتع البسيطة، لكن الجديد هو أن هذه المقالة ستكون مثل البيان الشيوعي لماركس وانجلز، ومثل "المانفستو" الذي كتبه ثيودور كازينسكي، ستكون أشبه بإعلان -سلمي وعلى استحياء- للثورة على الذوق الرفيع، على الحس الفني العالي، وعلى المتع بالغة الصيت، وإن فشلت ثورتنا.. فسوف نكسب شرف طرح الأسئلة! الخطيئتين: الملل وسوء الفهم:  لابد وأن حدث في يوم ما أن تسمرت أمام لوحة ذات صيت رسمها فنان شهير، تتسائل في قرارة نفسك وخلف تعابير وجهك التي تمثل فيها أنك منبهر بما ترى، تتسائل عن معنى الرسمة وغايتها، وان حدث أن فهمتها وكان لك رصيد ثقافي وسعة فهم، فلابد أن تسأل نفسك: هل استمتعت؟ هل من المفترض أن أستمتع بهذا العمل؟ وماذا يعني أن تفهم، لكن لا متعة ولا هم يحزنون؟  وان كنت تعيش في مدينة ليس للفن حضور فيها، فلابد أن مرت عليك أغاني للست، أو لطلال مداح أو عبدالحليم، وغيرهم من جبابرة الشجن العربي، لكنّك أيضًا -والمُلام هنا نفسك الشريرة- قد مللت من أغانيهم، وطورت حسًّا لأغاني تصنف من الفن الهابط، الفن الذي قد دمر الأغنية العربية وج...

العالم يتحدث اللغة، في الكاريبي يطيرون بها.

صورة
شاهدت قبل فترة وثائقي يعرض لغات مختلفة من منطقة جزر الكاريبي، المشهورة بسواحلها الخلّابة وطبيعتها الإستوائية هناك على حدود التقاء المحيط الآطلسي بخليج المكسيك، في الوثائقي كان الأشخاص عديدون، يتحدثون لغات مثل الجامايكية والهاييتية والكوبية، وكانوا يتحدثونها بسهولة وكأن اللغة لغة لا فقارية، مرنة ومراوغة وخالية من حروف العلل والتوقفات وحتى علامات الترقيم، ومخارج الحروف تشعرك أن الكلمات تسبح خارجها بأقصى سرعة، كأن أهل الكاريبي لا يتحدثون اللغة، بل يطيرون بها!  هل تختلف اللغات فعلًا في نطقها؟ هل بعضها بطيء وصعب يشبه مسير رجُلٍ يتعثر؟ وبعضها الآخر يشبه طيران ايكاروس الإغريقي في كبد السماء؟ أهل الكاريبي لا يطيرون: اللغات السواحلية مثل لغات أهل الكاريبي ليس لها أجنحة، لا تحلّق بهم للأسف ولا تركض بهم ولا هم يحزنون، لكنها في تصنيف اللغات تعتبر لغات نغمية Tonal Languages وهي اللغات التي تعتمد على التعابير الصوتية في إيصال المعاني، وعلى المعاني الصوتية أكثر من اللفظية لإيصال المشاعر والأفكار دون الإعتماد على معاني الكلمات نفسها، فتكثر فيها تعابير مثل الدهشة وكتم الأنفاس و إنشراحة الصدر مع نفخ...

عن الذي هُناك في الأعالي.

صورة
قبل أن أسترسل في سطور هذه التدوينة، أوّد أن أشارككم وجهة نظر شخصية ليست بالضرورة صحيحة لكنها تحمل أوجهًا من المنطق، في إعتقادي البسيط .. لا توجد فكرة أصيلة على وجه الأرض، ببساطة . كل الأفكار التي نصفها بالأصالة، بالإبداع، بالتفرّد والحداثة إنّما هي أفكار بُنيت على أنقاض أفكار سبقتها، واعتمدت في عظمتها وحداثتها على هياكل لأفكار أبسط وأقدم .. البشر كائنات محاكية emulators تقلد وتتماهى مع أقرانها وما حولها، بهكذا خاصية تحدثنا اللغة، تعلمنا المشي، وأنتجنا الأفكار!  فلولا عالم المثل لدى أفلاطون لما استوعبنا الفلسفة الكمومية الحديثة، ولولا رسائل غفران المعرّي لما كتب دانتي كوميديته الإلهية التي نعرف، واضطر جيمس وات أن يطلع على مخطوطات قديمة لآلات تعمل بطاقة البخار ليخترع واحدًا من أعظم الإختراعات في تاريخ الحضارة، ولم يفكر داروين في رحلته في جزر الجالاباجوس أن المخلوقات جميعها تناسلت من سلف مشترك وتمايزت في أشكالها بفضل قوانين البقاء، بل سبقه جده ايراسموس داروين وسبقهم قبلهم إمباذوقليس اليوناني.  معرفتنا تراكمية، فكرة فوق فكرة ومعرفةً تضاف لمعرفة، حتى نصل للفكرة التي أراها أول وأخر ...

خطيئة الأدرينالين .

صورة
يتسمر أمام شاشة السينما أو شاشة التلفاز لساعتين ونصف، ينتظر مشهدًا مفزعًا يفجر صرخاته ويقشعر جسده كاملًا، ورغم الشعور العارم بعدم الأريحية والخوف والتوتر والقلق، الّا انه ما إن تمر موجة الخوف حتى ينتفض خياله راغبًا في المزيد .. في مشهد عجيب يطرح تساؤلات عدة:  هل هذه حمّى الأدرينالين؟ وهل هو مظهر من مظاهر إدمانه؟ أم أنّها فكرة مازوخية دفينة تعكس رغبة الإنسان في تعذيب نفسه؟  وكيف يمكن لنا أن نفهم كيمياء أفلام الرعب، كيف أسس الإنسان لصناعة ضخمة من خلف كل مظاهر الرعب من أدب وروايات وأفلام، واحتفالات، وأزياء وأقنعة؟  المشاهدة من بعيد: تجربة بلا عواقب:  كيمياء أفلام الرعب مميزة فعلًا، رغم أنها تعطينا مشاعر مزعجة وغير مريحة تقريبًا طوال مدة الفيلم، الّا أننا نفضلها دائمًا ولسبب جوهري بسيط، لأنها تعطينا تجربة مخيفة ومرعبة بكل تأثيراتها البصرية والسمعية بلا عواقب ومن غير أذى وضرر يلحق بنا، أو ثمن ندفعه، وبدون أن نتأذى نفسيًا في الغالب -خصوصًا للبالغين- لعلمنا بحدود التجربة . في فيلم The Conjuring مثال بديع، تنزل الأم التي تسكن مع بناتها الخمس في بيت قديم في طرف المدينة انتقلو...